الأحد 22 ديسمبر 2024
توقيت مصر 23:48 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

الفيلسوف النَّحويّ...ابن جنِّي

كان عثمان ابن جنِّي الموصلي( 941-1002هـ)لا يجيء في ذهني إلا أصداء مفككه متناثرة ، أو كطيف بغير معالم ألمحه كأقرانه من النًّحاة يتوارى بين أسطر الكاتبين، ولكن الذي زج بي في غمار تجربة البحث عن آرائه وتتبع أفكاره؛ بعض أبيات كتبها عن نفسه يستعيض فيها عن ضعة نسبه عند الناس - فهو غير عربي وكان أبوه مملوكا روميا يونانيا- بنسب نفسه لعلمه و لمجده الاسلامي فقال:
 فإن أصبح بلا نسب / فعلمي في الورى نسبي
على أنِّي أؤول إلى / قروم سادةٍ نجبِ
قياصرة إذا نطقوا / أرم الدهر ذو الخطبِ
أولاك دعا النبي لهم / كفى شرفا دعاء نبي

عندما وقع نظري على تلك الأبيات للوهلة الأولى، حدس ما استولى علىَّ انها للمتنبي ،فهذا سمته، وفيها عبقّ أنفاسه، وكانت صدمتي كبرى عندما وجدتها منسوبة لصاحبنا (ابن جنِّي) فسمعت صوتا ساخرا يخرج من أعماقي متسائلا : أ ثمة عبقري أخر في تراثنا لا تعرفه؟!
آنذاك طفقت أبحث في سيرته، حتى كشف لي الثعالبي في "يتيمة الدهر"  عن سر ذلك الخلط الذي وقعت فيه  بينه وبين المتنبي،  بقوله:" ابن جنِّي صحب المتنبي دهرا طويلاً" ،و قرأ عليه ديوانه وأول من وضع شرحاً له ، ونبه على معانيه وإعرابه في كتاب  (الفسر الصغير )و(الفسر الكبير )، وكل من تعاقبه في شرح ديوان المتنبي، كان عالة على ما كتبه ابن جنِّي فإما أن ينقل منه، أو ينتقد عليه فيه أشياء. مما حدا بأحد المعاصرين  أحمد ولد البان :أن رأى أنه لولا ابن جنِّي ووقوفه مع المتنبي ، بقوة عارضته وحجته التي وقف بها مع زيغه الإعرابي، وخروجه على قواعد الصرف في شعره؛ كان المتنبي في التاريخ اقل من مكانته التي تبوأها ، لعل أهم ما يؤكد هذا  موقف المتنبي نفسه فكان يجلُّه  أيما إجلال، ويتضح هذا في قوله مشيراً إلى ابن جنِّي : هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس ، وإذا سُئل عن شيء من دقائق النحو أو الصرف في شعره، فيقول عليكم بابن جنِّي فسلوه؛ فإنه يقول ما أردت وما لم أرد.
قال ابن ماكولا:"وكان نحويَّا حاذقاً ومجوداً" ، وقال الثعالبي: "هو القطب في لسان العرب ، وإليه انتهت الرياسة في الأدب"، وقال الباخرزي : "ليس لأحد من أئمة الأدب في فتح المقفلات ، وشرح المشكلات ما له ، فقد وقع عليها من ثمرات الأعراب، ولا سيما في علم الإعراب"
وتعريفه للغة الذي ما تزال التعريفات الحديثة تدندن حوله: أنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم. ولكن أهم من ذلك كله عندي وما جذبني إليه تلك العقلانية التي  راح  يلتمس  بها العلل المفسرة للغة وقواعدها، ووضعها في كتابه الخصائص فهو أجلّ تأليف ابن جني التى بز بها المتقدمين وأعجز المتأخرين، وهو كتاب في أصول النحو على مذهب أهل الكلام و الفقه، احتذى في مباحثه النحوية منهج الحنفية في أصول الفقه.
فتجده ابتداءً يسأل عن اللغة  هل هي توقيف من الله وإلهام أم هي وضع واصطلاح؟ فراح يُضعف دليل الرأي الأول الذي يستدل بالآية(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) البقرة 31
أنها توقيفية فقال: وتحتمل أن يكون أقدره على تعليم الأسماء، وما تتطرق إليه احتمال بطل به الاستدلال ،لم يقف أمامها كثيراً ثم انتقل الى سؤال أخر هل علل النحويين كلامية أم فقهية؟ يعنى بذلك إذا ما كانت قابلة للتعليل أو غير قابلة، بحيث نأخذها بلا تعليل أو مناقشة كما نأخذ عدد الركعات في الصلاة، ولم يتركنا نتردى في حيرة السؤال كثيراً، فأجاب :"أعلم أن علل النحويين أقرب الي علل المتكلمين من علل المتفقهين" كما يقول زكي نجيب محمود في كتابه تجديد الفكر العربي: أنه من هذا المبدأ أنطلق باحثاً ، فاحصاً ، معللاً بالمنطق العقلي لا بالنقل والتقليد.  مثالاً على ذلك :
لماذا  رفع الفاعل ونصب المفعول؟ لأن الفاعل عندنا واحد، ولكن تتعدد المفعولات، فرفع الفاعل لقلته ونصب المفعول لكثرته، وذلك يقل في كلام العرب ما يستثقلون ويكثر ما يستخفون ( الخصائص ج1/ص69).
ولعل أهم ما ابتدعه ابن جنِّي أنه أقحم العقل عند النظر الي اللغة وخصائصها، وجعل له سلطانا ، وخلق افقاً بكراً لمن أراد ان يجتهد، فيقول  عن العرب: إنهم عند اختلاف الرأي ليستمعون إلى البرهان المنطقي الأقوى، حتى لو خالف ذلك ما أجمع عليه الناس ، أو حتى لم يأت على لسان أحد من أئمة اللغة السابقين. فيقول: إن كل من اهتدى إلى علة منطقة صحيحة، والتمس في تدليله عليها نهجا قويما متقبلا "كان خليل نفسه وابا عمرو فكره" (يشير الى الخليل ابن أحمد ,ابي عمرو ابن العلاء) يعني أنه ليس لاحد أن يحتج على صاحب الدليل العقلي بأنه أقام دليله على شيء لم يعرف العرب له نظيرا، كما يقول هو أيضا " إذا دل الدليل، فإنه لا يجب إيجاد النظير.. ، فإيجاد النظير بعد قيام الدليل للأنس به لا للحاجة إليه".
وأختم هنا بما قاله زكي نجيب محمود : "فلا ضير على قومٍ أن يقولوا عن لغتهم: هكذا سمعناها ونقلناها، فنرفع الفاعل وننصب المفعول لغير علة مفهومة  إلا أن نجري في ذلك مجرى الأسلاف، دون أن يكون الأخذ بالتقليد في هذا الجانب مأخذاً ينتقض العقلانية فينا، فما بالك أن تجد العرب قد حاولوا حتى في اللغة وقواعدها أن يلتمسوا لها العلل المفسرة، إنه إيغال منهم في طلب العلة المعقولة حيثما صادفتهم ظاهرة طبيعية كانت أو اجتماعية".
فانظر يرحمك الله هؤلاء الأجداد ومنهم ابن جنِّي : سلط العقل على النص لا ليغيره أو يبدله أنما لييسره ويبينه
أما نحن الأحفاد  فما كان منا إلا أن تنكبنا الصراط ، فجعلنا من النص قدسا؛ حرمنا على العقل أن يقربه.