الأحد، 28-06-2020
12:33 م
د. هشام الحمامى
نعلم جميعا أن الفاروق عمر رضى الله عنه منع (المؤلفة قلوبهم) من استحقاقهم للزكاة والذى ورد فيه نص قرآنى واضح بأية كريمة فى سورة التوبة .. الباحثون يقولون أن عمر هنا لم يوقف العمل بالنص فهو لا يملك ذلك وحاشاه أن يفعل ذلك..إنما أعمل نظره فى روح ومراد ومقصد النص وتوافقه مع الواقع ومصالح الناس فى هذا الواقع وهذا الزمن .. فرأى أن تأليف القلوب لم يعد له حاجة في (زمنه) فقد كان ذلك من أجل الإصغاء إلى الإسلام وخطابه..و ضمان حيادية هؤلاء المؤلفة قلوبهم ومنع خطرهم.. فلما اشتدت قوة المجتمع المسلم اصبح التأليف بالمال غير مطلوب وحفظ أموال الناس هو المطلوب بل ولازما ..فقد تبين الرشد من الغي .. و قال رضي الله عنه :إن الله قد أغنى الإسلام وأعزه .. فالحق من ربكم فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر.. ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ذلك .
ما فعله عمر كان اجتهادا دقيقا يقف على تحقيق الهدف الذى جاء الحكم من أجله ..مثل هذه الاجتهادات لم تعطل أحكاما ونصوصا أو أن العقل توصل إلى تغيير ذلك .. هى فقط لم تٌطبق لأن شروطها غير متوفرة والمصلحة المترتبه عليها غير موجوده ..كان رضى الله عنه أفقه المؤمنين لكتاب الله ..قلت ذلك كثيرا..وسأظل أقوله وأردده .. فهو رضى الله عنه كما وصفته السيدة عائشة أم المؤمنين: كان والله أحوذيا ..نسيجَ وحده وقد أعد للأمور أقرانها..و(الحوذى)هو الرجل الحازم القادر على الأمور..الذى أدرك صميم الحقائق..وتأمل وصفها بأنه قد أعد للأمور أقرانها ..وهو وصف يشير الى فقه ومعرفة ونور وفهم.. رضى الله عنه .
*****
شهدت مصر الأسبوع الماضى جريمة دنيئة قذرة اجتمعت فيها كل ألوان القذارة ..جريمة قتل الطاهرة الشريفة السيدة(إيمان عادل) وفى يدها طفلها ذو التسع شهور .. اكتشفت مقتلها أخت زوجهابعد أن فوجئت أن باب شقة شقيقها مفتوحا.. وعندما دخلت وجدت زوجة أخاها مقتولة داخل غرفة نومها وهي تحتضن رضيعها..ليطفح فى وجه المجتمع كله بئر القاذورات.. فنعرف أن الكاميرات رصدت القاتل أثناء صعوده العقار وخروجه منه مسرعا مرتديا (نقاب)وأن الجريمة الدنيئة فعلها الزوج الذى تزوجها من سنة وانجب منها طفلا ونفذ الجريمة بمساعدة عامل بالمحل الذى يمتلكه لترتيب فضيحة أخلاقية للراحلة تمكنه من طلاقها دون التزامات قانونية ..العامل اعترف بأن زوج الراحلة اتفق معه على تنفيذ جريمته مقابل مبلغ مالى.. على أن يأتى الزوج فجأه ويجدها مع العامل فيقوم بتصويرها ..لكن كل ذلك لم يحدث ..قاومت السيدة الشريفة فأختل تفكير العامل فقتلها .. وتذكر أنه كان الاتفاق أن يهتك شرفها ففعل بعد قتلها وابنها يبكى الى جوارها .. ثم نزل وخلع(النقاب) الوسيلة الرئيسية التى اعتمد عليها فى دخوله وخروجه .. وذهب الى الزوج المختل المسفاح ليخبره بما حدث .. وتمكنت الأجهزة بتتبع الكاميرات من تحديد المتهم و صاحب المحل الذي اشترى منه النقاب والترزي الذي قام بتقصيره على مقاسه...والباقى تفاصيل موجودة فى صفحات الحوادث.
*****
الجريمة غير عادية فى كل تفاصيلها وينتظر الناس أن لا تتوه فى التحقيقات والمحاكم ويتم توقيع عقوبة غير عادية وعاجلة على الزوج والعامل.. وصفحات التواصل ضجت بصراخ الشباب مطالبين بقصاص سريع وعادل ..
لقد تغير وجه الحياة فى مصرللأسف وتغيرت الشخصية المصرية الأصيلة العريقة وغابت عنها (الطيبة) وحل محلها الميل للعنف والعدوانية والشراسة والتحايل والكذب والإلتواء والتخفى والخنوع والخداع والنفاق ومد اليد.. بكل أشكال المد ..وأختفت مفاهيم وأخلاقيات الكرامة والضمير والصدق والشهامة .. وانحط الدرك الأخلاقى الى أسفل السفالة ..تغيرات حادة وعميقة أصابت البناء الإجتماعى من جذوره مع اهتزاز عنيف فى كل الثوابت والأعراف .
*****
ذكرت فقه عمر وفهم عمر ورأى عمر فى البداية لننطلق منه فى الدراية بواقعنا والحركة بالدين(أصل الفضائل) كلها فى هذا الواقع ..وقد رأينا كيف استخدم القاتل(النقاب) فى التخفى والدخول والخروج ..وهو ما يجعلنا ننظر لهذه(الفضيلة الاجتماعية)فى اختيار الملابس نظرة مراجعة ..خاصة وأنها محموله على ظلال الدين..ليكن ذلك. فليس هنا موضع نقاش هذه النقطة ..
لكن ما الحل اذا كان الواقع الاجتماعى الأن لا يتوافق مع هذه (الفضيلة)بل وأصبحت أحد أخطر وسائل التخفى والاختباء لتنفيذ الجرائم والاحتيالات ..ماذا علينا لو انتظرنا قليلا حتى تنتشر أخلاقيات الإيمان والأمان فى المجتمع ثم نطبق هذه الفضيلة وغيرها .. ونقتدى بعمر فى اجتهاد التوافق بين الحكم والواقع تحقيقا لمصالح ومقاصد كبيرة وأكثر أهمية ..وفى النهاية هذا هو مراد الشرع فحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله ..والأصل فى الرسالة الخاتمة التى جاء بها النبى الخاتم صلى الله عليه وسلم أنها تهدف الى تحقيق التوحيد والتقوى والعدل وحفظ النفس والعرض والحرية والمال والعقل والدين وما يحويه من التخفيف والتيسير و(رفع) الحرج والقيود والإصر والأغلال ..والأية الكريمة فى سورة النساء تنص (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا)..والعبرة كما يقولون دائما بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ..والتخفيف هو التخفيف والضعف هو الضعف..بدون إعاقات وتعقيدات وتخريجات وإدعاءات..ولا تنسى أنك تتحدث عن موضوع هو فى الأصل محل خلاف كبير..(النقاب).
*****
لقد رأينا كيف تحول هذا الموضوع (النقاب)فى الغرب الى قضية رأى عام وأصبح مادة للقرارات والاستثناءات والسماح وعدم السماح..ونحن لا نملك ولا نستطيع ولا نريد الشق عن ما فى صدور الناس لنعرف(الدوافع المكنونة)لمثل هذه الإختيارت .. وأنت تتحدث عن دين يقوم على اليسر والمقاربة والتلطف والتخفيف ونفى كل أسباب ومقدمات ونتائج (الحرج)..أذكركم _ والتفاصيل تستدعى بعضها _ عن أزمة المآذن والمنارات وكيف أيضا تحولت الى قضية رأى عام فى أوروبا..
وأى متابع دقيق للتطور الإجتماعى والفكرى فى الغرب يدرك أن هناك فى الغرب من يريد أن يجعل من الإسلام (بعبع) حتى لا يقترب منه العقل الغربى الذى لم تستطع المسيحية أن تجيبه عن كل أسئلته الحائرة ..تذكروا لوحة الفنان الفرنسى جوجان الشهيرة (من أين نأتي؟ ما نحن؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟).
وها هو يرى فلسفاته التى قامت عليه حضارته كلها من كانط وهيجل وشوبنهور وفولتير وسارتر وحتى فوكو وإدجار موران وفوكوياما(هو فين بالمناسبة هو وتاريخه الذى انتهى) كل هؤلاء لم يوفروا له السكينة الروحية ونقطة السكون التى يبغيها ويسعى حثيثا إليها .. ولن يجدها إلا فى الإسلام..ويا بٌعد ما بينه وبين (الإسلام) إذا كنا نقدم له الإسلام بهذه الأفعال وهذه المواقف.
*****
أقول بكل صدق وحنان وحب لجموع المتدينين: لا تجعلونا مضغة على ألسنة السفهاء والحقراء فى الفضائيات ويتخذوا من بعض اختياراتنا فرصة للتطاول على الدين ورسالته ..تذكرون فى الثمانينات حين ذهب عادل امام الى أسيوط ليواجه الجماعات التى تحرم المسرح .. وجعلوا منه بطلا شعبيا يحيى الناس من القطار وهو يمر على المحطات .. وقتها كان عتاب الشيخ الغزالى رحمه الله على التيارات الدينية عتابا حادا إذ غابت عنها بوصلة الاسلام الحقيقية ..وقال معلقا على تلك البطولة الزائفة جعلتم السفهاء أبطالا بمواقفكم الخاطئة ..ولم يتوان مكرم فى المصور وعادل حمودة فى روزا اليوسف واطلقوا عادل إمام ليسخر من الشيخ الغزالى ويصفه حين كان يمشى فى الحلمية (كانوا جيرانا) يهدد الأطفال الذين يلعبون الكرة ..وما كان كذلك رحمه الله.
*****
يقول العلماء أن مسألة النص فى الإسلام مسألة متحركة مع الطبيعة المتجددة للناس ..وكل النصوص تقريبا تمتلك حيوية وامتداد فى حياة الناس ..وتعالج حياة شاملة واسعة متحركة مع حركة الإنسان على مدى الزمن.. فقط علينا أن نعرف ونفقه ونفهم .