الأحد 22 ديسمبر 2024
توقيت مصر 08:14 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

الإنسان ذئب الإنسان؟.. لكن الذئب برئ !

لعل الذئب هو أشهر(متهم برئ)في تاريخ ما سجلته البشرية من جرائم مزورة.. وهى كثيرة في الحقيقة.. و بجريمته المكذوبة عليه وفى هذا الموقف تحديدا.. له في الذاكرة الحزينة للبشر مواقع و أماكن .. فغير الافتراء عليه بالدم الكذب ..وغير الطفل الكريم بن الكرام الذى أتهم به زورا والذى يسير إلى قدره العظيم عبر تسديده لثمن مشاعر مضطربة عند إخوته.. غير كل ذلك ..هناك هذا الأب المكلوم على حبة عينه وروحه التى تعانق روحه .. والذى كان يعلم شريط الأحداث من أوله إلى أخره كما يبدو من سياق الأحداث كما قصها القرآن الكريم في مفارقه مدهشة الى الطبيعة البشرية التى تسكن فينا وتغالبنا ونغالبها ..فيعقوب عليه السلام كان يعلم علم اليقين بلحظة (ورفع أبويه على العرش..)..ومع ذلك فلم يملك(عمر رضى الله عنه) دموعه وهو يتلو قوله (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون..)فيبكى لبكائه وبثه وحزنه بنشيج وأنين يسمعه من كان في أخر المسجد.. حتى لكأنه لا يعلم ما صار إليه يوسف في حكم مصر .. 

نحن أمام (نبى) وأمام (إنسان)..النبى أطلعه الله على شريط الزمن والأحداث بدئاً من الرؤيا وحتى الجلوس على خزائن الأرض ..والإنسان يحزن ويبكى ويفقد البصرمن شدة البكاء ويحدوه الأمل حتى يتملكه.فيصبح حقيقة يتطلع إليها بروحه فيشتم رائحتها من بعيد ..فيغمره الفرح ويصيح بصاحب الرائحة حتى كاد أن يسمعه.                     
لقد عاش سيدنا يعقوب كتاب قدره.. صفحة صفحة وسطرا سطرا..علما ومعرفة.. حذرا وحزنا.. دعاء وأملا.. رجاء ويقينا..فرحا وشكرا.. كل ذلك في رحاب (وأعلم من الله ما لا تعلمون ..)  

**** 

ووقفه صغيره مع فكرة (الزمن) التى حيرت الدنيا والعلماء حتى أنهم ذهبوا في أحدث ما قالوا إلى أن الزمن مفهوم يختص به الدماغ البشرى والجهاز العصبى للإنسان ولا وجود له في الفيزياء..كما قال عالم الفيزياء الإيطالي(كارلو ريفيللى)مؤلف كتاب (نظام الزمن)..وأغلبنا شاهد فيلم (إنترستيللار)أو(بين النجوم)الذى صدر عام 2014م والذى يظهر فيه (الزمن) باعتباره بعد مكاني ..ويظهر من خلال شريط به بوابات فيها لمحات من الماضى والحاضر والمستقبل ..الطريف أن أحد أهم علماء الفيزياء في العالم (كيب ثورن/ 80 سنة) والحائز على نوبل 2017 م شارك في إنتاج الفيلم والإشراف  العلمي عليه . 

**** 

عفوا لهذا الاستطراد الذى أخذنا إليه( الذئب البريء)والذى سارت براءته والشهادة بها مثلا بين الناس(براءة الذئب من دم بن يعقوب) لكن الذئب برئ..الإنسان هو من فعل كل هذا..هو من حقد وحسد وخطط ونفذ و أتى بالدم الكاذب ..إذن فقد كان الفيلسوف الانجليزى توماس هوبز رجل(أى كلام) على رأى المطرب(تميم يونس)..طبعا أغلبنا يعرف تميم..لكن من هو توماس هوبز(1588- 1679)؟ .                                                                هو أحد كبار عيون العقل الغربى وأحد أهم الأباء المؤسسين لفكرة السلطة والدولة في القرن السابع عشر.. تخصص في الرياضيات والفلسفة وله كتاب لا زال يقرأه الناس حتى اليوم بعنوان(الليفياثان) والكلمة تشير إلى حيوان خرافى له جسم ثعبان ورأس تنين يعيش في البحر .. 

عمنا توماس له جملة شهيرة وردت في هذا الكتاب (الإنسان ذئب الإنسان فى حرب الجميع ضد الكل)..طبعا الرجل كان متأثر بظروفه التى عاشها..(الحرب الأهلية الإنجليزية والتي استمرت عشر سنوات تقريبا من 1642 -1651م) خلاصة ما قاله هوبز: أن العلاقة بين البشر محكومة بالصراع والعداوة اللانهائية .. صراع يفترس فيه الإنسان أخاه الإنسان ..كما و أن الإنسان لا يختلف في هذا الصراع عن الحيوان في أنانيته وشراسته...والصورة التي ترسم له على غير ذلك هي أقرب ما تكون إلى الأماني والأوهام أكثر منها إلى حقائق الواقع الذى يعيشه البشر ويعرفونه جيدا في التاريخ وفي الحاضر.  

جملة(الإنسان ذئب للإنسان)وصفها الفيلسوف الفرنسي المسلم روجيه جارودي الذى عاش 99 سنة1913 -2012  منهم 30 سنة فقط في الإسلام وضعفهم في الشيوعية ..وصفها بأنها( أصل الشرور في العالم) وهو صائب تماما فقد عرف في الإسلام :ما الإنسان ؟ وما الحياة ؟وما الموت؟ وما الصراط المستقيم..                                         

**** 

لكن فيلسوف الوجودية الفرنسى سارتر الذى عاش 75 سنة من1905 - 1980 والذى لم يعرف سيقول لنا:(الجحيم هم الناس الآخرون)وعندما يكون الأخرين جحيما فالعلاقة معهم ستكون حتما سلبية لأنهم سيكونون مصدر إزعاج وضيق و تعذيب و ألم و شقاء وحد من الحرية..أما الفيلسوف الألماني فريدريك نتشه الذى عاش 56 سنة من 1844 – 1900 م ومات مجنونا..جاب من الأخر كما يقولون وقال جملته الجميلة جمالا جمولا:(إن معنى ان نعيش هو أن ننهب و نجرح و نعتدي على الضعيف و الغريب و أن نفرض عليهما وبقسوة مقولاتنا الخاصة..مدفوعين برغبتنا في المحافظة على ذاتنا وإشباع  المزيد من الرغبات والاستحواذ على المزيد من القوة واذا ما أشتد هذا الصراع فإنها الحرب.. ) 

**** 

في الحياة التى بلا إيمان لا أمان..كما قال لنا الشاعر والمفكر الإسلامي الكبير محمد إقبال الذى عاش 61 عاما من 1877 – 1938م ..فكل إنسان يصارع ويقاتل كل أنسان آخر..وكل فرد يريد آن يحصل على المزيد من القوة وأن يفرض سيطرته على كل فرد آخر..وكل فرد يريد تملك كل شيء.. حتى وإن كان على حساب أخيه الإنسان الذى هو بمثابة عدو.. إنه ذئب يتربص بأخيه الإنسان الدوائر ومتى سنحت له الفرصة أجهز عليه.                          فهنالك الكثير من الأشياء التى يتنافس عليها البشر..الثروة والمناصب الرفيعة والسعي لاكتساب الإعجاب والعلو في الأرض وغير ذلك من زخارف الحياة ..وسيؤدي كل ذلك إلى استعداد للحرب في البداية ثم يتحول إلى عداء وحرب وقتال.. ذلك أن الطريق الذي يسلكه المنافس هو طريق القضاء على خصمه (لا التعايش معه)..وذلك بقتله أو قهره أو إخضاعه لسيطرته أو العمل على آن يحل محله بالاستئصال أو الطرد..وعلى ذلك فلا مجال للثقة بين الفرد وغيره الذى يتشكك في كل ما يصدر عنه من تصرفات.. لذا يسعى كل واحد إلى إحباط محاولات الأخرين من البداية.  

**** 

التطلع إلى (المجد) أيضا مصدرا رئيسيا من مصادر الصراع بين البشر.. فكل إنسان ينتظر من الأخر أن يعطيه قيمة معينة أو يقدره قدرا..هذا(التقدير) أصلا هو الدرجة التي يعطيها الإنسان لنفسه.. وعلى حسب ما يقدر نفسه يريد من الأخرين آن يقدروه.. ولما كانت هناك دلائل تشير إلى الحط من قدره.. أوهكذا صورت له نفسه أو وسوس له إبليس.. فمن الطبيعي أن يحاول انتزاع قيمة أعظم ولو بالقوة.. فـ (الاحتقار)يشير إلى آن الأخرين يعدون قوته.. أدنى من قوتهم.. وفى الحقيقة ليس هنالك من يعترف بهذه (الدونية) طواعية.. ولابد أن يؤكد نفسه وقدرته ليقنع الأخرين بهذه القدرة.. و ليس هناك سبيل أمامه سوى التغلب على محتقريه بالقوة ..أو أن يعاني المزيد من الانتهاك لوجوده وكرامته.                                                                                                               

**** 

الإسلام أقر وأكد هذه الطبائع وأكثر في(الإنسان)..وغطاها بتفصيل أوسع وأعمق حتى يتبين الرشد من الغى ..ليس هذا فقط .. بل وأخبرنا أن الإنسان لديه كل القدرة على إختيار مسلكه في الحياة بإرادة كاملة وحرية تامة ..ليس هذا فقط ..بل ولديه القدرة على إعتياد سلوك المسلك الصحيح إذا أختار وأراد ..                                             ذلك أن(الحياة)في المفهوم الإسلامي/الإنساني: لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر في الأموال ورغبة دائمة في الاستعلاء مصحوبة بأنانية ومنع للخير وشح وهوى ومزاج ورأى خاص يريد فرضه ودنيا تعلو ولا يعلى عليها ..رغم أنها إلى فناء نكاد نرى له بيان تجريبي كل يوم : كمثل غيث أعجب الزارعين نباته ثم يهيج ..فتراه مصفرا.. ثم يكون حطاما.. ليس في النبات فقط بل فينا أيضا..ضعف وقوة ثم ضعف وشيبة ثم الموت والنهاية.. وبعد الموت مصير من مصيرين ..عذاب شديد أو مغفرة من الله ورضوان.. وعلى من علم أن يعلم أكثر وأكثر أن الدنيا متاع الغرور.. 

**** 

لا شىء في يديك إلا ما كسبت يديك وتحول إلى كتاب ينطق بالحق..إنه (اختبار الاختيار)والذى هو ضرورة مصاحبة لوجود الإنسان على الأرض..ومن عنده مسارات ومسالك أخرى لوجوده ونهايته ومصيره فليتفضل مشكورا ..كل الاستحقاقات السابقة ستطلب من الإنسان أن ينظر للأخرين نظرة تخاصميه عدائية مليئة بالتحفز والشكوك وإن أخفى ذلك وتظاهر بغيره ..خٌسر في خٌسر وخسران في خسران (إلا) ..إلا من ؟ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر. 

في الحد الأدنى عمل الإسلام على أن تكون لصراعات الحياة أخلاق وللعداوة حدود وللخصومة قواعد.. لكن الإسلام لا يرض بالحد الأدنى وهو الذى جاء للإنسان بالكمال والتمام ..فقال لنا في سورة فصلت (ولا تستوى الحسنة ولا السيئة/ ادفع بالتي هي أحسن/ فإذا الذي بينك و بينه عداوة/ كأنه ولي حميم/ وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم). 

إنه المجتمع الجميل ..الذى يبرأ من الذئب البرىء.