الأربعاء، 05-08-2020
10:16 م
محمود سلطان
في شتاء عام 98 دعاني الشاعر الكبير الراحل عبد الرحمن الأبنودي إلى وجبة سمك بوري في منزله الريفي الجميل في قرية "الضبعية" بالإسماعيلية.
كان عنده ـ آنذاك ـ الصحفي محمد القدوسي، مدير تحرير جريدة الشعب ( أيام إبراهيم شكري وعادل حسين ومجدي حسين وطلعت رميح) والتي كنت أعمل بها صحفيا في قسم التحقيقات (وقيدت منها في نقابة الصحفيين).
اصطحبني إلى بيته، صديقه "الأنتيم" صهري (أخو زوجتي) المهندس إبراهيم عبد المقصود، والأخير لم يكن صديقا للأبنودي وحسب وإنما كاتم أسراره ومحل ثقته المطلقة.
كانت في حقيقتها جلسة صلح، كنت قد انتقدت الأبنودي بقسوة في مقال لي بجريدة الحقيقة (كانت تصدر من حزب الأحرار ورئيس تحريرها الراحل محمد عامر). بسبب موقفه من الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله.
والأبنودي شديد الحساسية للنقد (كان يأخذ على خطره).. المهم استقبلني على السلم، بذات البساطة التي جاء بها من قريته بصعيد مصر "أبنود" .. يرتدي بيجامة "كستور" الجاكت لون.. والبنطلون لون آخر! وربما كان أزرار الجاكت في عروة غير العروة. أو هكذا خيل إلي.
جهز الأبنودي سلطة "الطحينة" بنفسه.. وجاء التاكسي بوجبة السمك البوري المشوي، وناقش الأبنودي السائق وجادله طويلا في الأجرة التي طلبها.. قبل أن يخرج من جيب البيجامة 15 جنيها أعطاها له وانصرف.
قضيت النهار كله مع الأبنودي والقدوسي وصهري (المهندس إبراهيم عبد المقصود).. وكان يوما ممتعا وبدأت حينها أتعرف على الأبنودي الحقيقي وعن قرب وليس عن الشاعر الأسطوري كما كنا نتخيله من خلال أشعاره وأغانيه.
لاحظت في هذا اليوم أن الأبنودي يريد أن يغطى يومه كله بالنكتة والقفشة والضحك والفكاهة.. لا يريد أن يتكلم في السياسة أو الثقافة أو في أي شيء جاد أو متجهم وكأن لسان حاله يقول: أنا هنا في الإسماعيلية لأعيش حياة خالية من ضجيج وصخب وتلوث وهموم ومعارك وخناقات القاهرة.
اكتشفت أن الإسماعيلية في حياة الأبنودي كانت هي الهجرة الثانية في حياته بعد هجرته الأولى الجسورة والجريئة من أبنود القاحلة وشديدة الفقر إلى "النداهة ـ القاهرة" كما وصفها يوسف إدريس.
اكتشفت فيما بعد أن الأبنودي شاعر له وجهة نظر في الحياة (فلسفة).. جاء بها من أبنود بكل حمولتها الإنسانية وتضاريسها التي ظلت محفورة في وجه الأبنودي إلى أن توفى رحمه الله.. ولكنها نضجت على يد صديقه الكبير عبد الحليم حافظ.
رغم أن الأبنودي كان يعتبر ما يكتبه من أغاني "أكل عيش" ـ وذلك غير نظرته إلى أشعاره الأخرى التي كتبها وجمعها في دوواينه ـ إلا أنها كانت تسجل بدون وعي محنته مع الحياة وقسوتها.. ولعل القدر شاء أن يسجلها في آخر فلام عبد الحليم "أبي فوق الشجرة" من خلال أغنيته "مشيت على الأشواك" والتي تعتبر من أرفع كلاسيكيات الأغنية العربية:
مشيت على الأشواك وجيت لأحبابك
لا عرفوا إيه وداك، ولا عرفوا إيه جابك
رميت نفسك في حضن
سقاك الحضن حزن
حتى في أحضان الحبايب
شوك شوك يا قلبي
مشينا هناك ورحنا
اللي هناك جرحونا
جينا شايلين جراحنا وبكينا
جينا لكم يا اللي لينا
مدوا إيديكم خدونا
شيلوا الشوك من صدورنا
والدمعة من عينينا
ابكي تحت الليالي والخوف ملو الضلوع
قلبي يا بلاد غريبة، بتنورها الدموع
رحمه الله