الجمعة 22 نوفمبر 2024
توقيت مصر 13:10 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

أسعد كل الناس.. ثم مات تعيسًا!

عندما فاز محمد حلمي، الذي توفي في مثل هذا الشهر من عام 2017، بجائزة على كتاباته الساخرة، وكانت قيمتها 5 آلاف جنيه، اُستضيف على فضائية خاصة، وكان نجم السهرة، ومصدر البهجة والفرحة على الجميع، وبعفوية وتلقائية غير مفتعلة قال: "والله تسلمت الجائزة "5 آلاف جنيه"، وأنا في أشد الحاجة إليها!!".
قالها على الهواء، بصراحته وعفويته المعهودة.. ولكنها كانت تحمل رسالة عن حالة محمد حلمي وعن ظروفه، لم يلتفت إليها أحد، ولم تعبأ بها نقابة الصحفيين ولا المجلس الأعلى للصحافة، الذي كان حينها ينفق بالملايين على مشاريب القهوة فقط !!
"حلمي" لم يكن صحفيًا عاديًا، بل كان كما وصفه الزميل والصديق محمد علي خير، معجونًا بطينة الكبار.. كان واحدًا من أهم وأفضل كتَّاب النكتة والسخرية، كان مشروعًا ليكون ـ حال خلصت النوايا في التعامل معه ـ أحد أكثر تجليات قوى مصر الناعمة في العالم العربي.. كنت أستغرب كيف يكون في مصر صحفي بكل هذه الموهبة النادرة، وتهدر قيمته وقامته، ويترك لتنهش في جسده الضعيف وقلبه الرقيق، أنياب العوز والعيش، عند أبعد نقطة على قمة حياة البؤس وشظف الحياة؟!
من أول وهلة، وقبل أن تسأله من أنت؟ يتسلل إليك انطباع، بأنه كائن نيلي معجون بطمي النهر الخالد، ومخزون للتراث الشعبي، الذي وظفه ببراعة في صوغ النكات والقفشات السياسية والاجتماعية والتي تخلط النقد المر، بإحساس ناعم بالسعادة وانتزاع الضحكة من القلوب التعيسة والمتعبة.
"حلمي" كان المثقف الساخر، ابن الأحياء الشعبية، ونصير الفقراء، والمناضل الحقوقي للمهمشين والمعذبين وسكان العشوائيات ومدن الصفيح.. كانت مدينة الزقازيق كلها تستغرق في النوم والسبات العميق.. ويسهر "حلمي" وحده، في شوارعها الحزينة، يشرب من أحزانها وتعاستها وتلوثها وفوضويتها حتى الثمالة.. وقبل أن يعود إلى بيته، ينسج من هذه الأحزان، مواويل ساخرة، تجلد الاستعلاء الطبقي، والنخبة المغيبة، في المنتجعات الهوليودية المعزولة، يسلخ بكلمات من رصاص، ضمائرها التي ماتت من التخمة وسرقة الفقراء.
محمد حلمي أسعد الجميع.. ثم مات أتعس الناس.. مات مديونًا ب14 ألف جنيه، لمستشفى التيسير الدولي في الزقازيق.. تكسّب من جهد وإبداعات محمد حلمي كثير من حيتان الصحافة.. ومات فقيرًا.. رغم نبل وبر وسخاء زملائه وعشاقه ومحبيه الذين واسوه، وتكفل بعضهم بجزء من فاتورة علاجه.. حين تخلت عنه النقابة والدولة.. ولأنه كان عفيفًا رقيقًا.. ربما لم يمُت من المرض، ولكن ربما يكون قد مات من الحزن على نفسه، وإلى ما آلت إليه حياته في أيامه الأخيرة.
"حلمي" يجسد مأساة المئات من الصحفيين الحزبيين المتعطلين عن العمل، بلا رواتب ولا عمل ولا تأمينات ولا أية مظلة حماية تعصمهم، هم وأولادهم، من مصير يشبه مصير محمد حلمي.
رحمه الله تعالى.. وخالص العزاء لزوجته وأبنائه وبناته