الثلاثاء، 03-03-2020
03:39 م
أسامة الهتيمي
ربما لم يكن خافيا على المتابعين أنه في مقابل تلك الحالة الجنائزية التي انتابت قطاعات جماهيرية كبيرة من المثقفين والباحثين خاصة في مجالات الفكر الإسلامي جراء وفاة المفكر الكبير الدكتور محمد عمارة كان هناك البعض ممن عكست تعليقاتهم نوعين من المشاعر أحدهما شعور بالارتياح من التخلص من مثل الدكتور عمارة بما مثله من مدفعية ثقيلة نجحت وعلى مدار عقود في إلجام ألسنة المعادين للفكر الإسلاميوثانيهما حالة من الضيق والغيرة بعد أن تكشف لهؤلاء إلى أي مدى استطاع الدكتور عمارة أن يحقق شعبية كاسحة على الرغم من كل محاولات التضييق التي فرضت عليه وعلى أمثاله فلم ينالوا ما حظي به الآخرون - ممن لا يستحقون تصدر المشهد الثقافي والسياسي - من فرص الظهور والتنجيم الممنهجة.
وبعيدا عن وصف المشاعر وتباينها فإن خسارة الدكتور عمارة ابتلاء كبير ومصاب جلل يستتبع وبسرعة شديدة تجاوز محنة الشعور بفداحتها لنطرح التساؤلين الأهم والأخطر حول الذي كان يميز الدكتور عمارة عن غيره؟ ومن يستطيع أو بالأحرى من أولئك الذين يستطيعون أن يقوموا بالدور الذي كان يقوم به رحمه الله؟ومن ثم فلا تأخذنا حالة التحسر طويلا فنضحى فضلا عن خسارتنا للدكتور عمارة فاقدين للواقع وللمستقبل وهو المنهج الذي تبعه الدكتور عمارة نفسه حيث أشار إلى استشعاره للمهمة الثقيلة التي ألقاها على كاهله الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي خلال عزاء شيخ الأزهر الراحل الشيخ جاد الحق علي جاد الحق فكان ما كان من إنتاجه الفكري الذي مثل ولا يزال سلاح مقاومة أمام تلك العواصف العاتية.
والحقيقة أن إجابة التساؤلين ليست أمرا هينا فبعض الإجابة يستلزم بالأساس وعيا عميقا بالمشروع الفكري للدكتور عمارة سواء ما ظهر منه للنور وما كان يخطط لإخراجه - رحمه الله -ولم يمهله القدر وبعضها يحتاج لروح فكرية فدائية تمنح صاحبها القدرة على التزام الموضوعية في الطرح دون الخشية من حالتي الاستقطاب أو الإرهاب الفكري السائدتين في الوقت الحالي.
غير أنه وعلى الرغم من تلك الصعوبة فإن هذا لا يمنع أن يساهم كل حسب استطاعته في تقديم ما يشكل ملامح تلك الإجابة ليتحدد بشكل أقرب للدقة كيفية التعاطي مع مرحلة ما بعد الدكتور عمارة والتي يفترض أن تشهد مخاض إنتاج مفكرين جدد يحملون الراية ويملؤون الفراغ الذي يعد ملؤوه في نظري واجب مقدس سيكون تحقيقه الوسيلة الأهم لتحصين الكثيرين من الوقوع في فخ التشويه والتضليل الممنهجين من قبل الذين يعملون بنظرية "الفرصة".
ولعل أول ما يمكننا أن نشير إليه تلك البديهية المتعلقة بالفارق بين العلم والفكر ليس فيما يتعلق بطبيعة أدلة كل منهما ولكن فيما يختص به الفكر من ديمومة التحليل والتركيب والنقد وهي العقلية التي كان يتسم بها الدكتور عمارة وعليه فإن إشكالية الفرق بين الدكتور عمارة وغيره الكثير من الباحثين والأكاديميين ليست تحصيلية أو معرفية فحسب بل على العكس فإنه ليس مستبعدا أن يكون بعض الباحثين وفي بعض مجالات الدرس والبحث الإسلامي أكثر حفظا وإطلاعا من الدكتور عمارة نفسه وبالتالي فإن الإشكالية الفارقة هي قدرة الدكتور عمارة على النظر بشكل موسوعي وبانورامي والاستنباط والفك والربط وإدارك المقاصد والأهداف العليا وهو أمر لا يتأتى لكل باحث أو أكاديمي ليست لديه الجرأة على تجاوز حدود حديقة مجال تخصصه.
وبطبيعة الحال فإن امتلاك مثل هذه العقلية يحتم على صاحبه أن يكون لديه مشروعهالفكري فالأمر بالنسبة له ليس ترفا أو تصنعا وإنما نداء خفي وإلحاح داخلي ليس أمامه إلا الاستجابة له مهما كانت التكلفة والتضحيات فالمسألة إذن رسالية بالدرجة الأولى الأمر الذي يكسب صاحبه قوة إيمانية وحصانة نفسية ومقاومة روحية قادرة على أن تستصغر كل ما دون الرسالة دون الوقوع في الأفخاخ التي تزداد يوما بعد يوم.
ولا يعيب الدكتور عمارة في هذا الصدد ما يعتبره البعض حالة تقلب فكري حيث الانتقال من اليسار - "الذي لم تكن مرحلة تبنيه شيوعية محضة" - إلى الفكر الإسلامي بل على العكس ربما مثل هذا التحول الفكري نقطة قوة كبيرة في فكر الدكتور عمارة على مستويين الأول أن مرحلته الإسلامية تمثل النضج الفكري كونها كانت التالية وليست الأولى فضلا عن أنها جاءت بعض مسيرة بحثية ليست بالقليلةورحلة تأملية استمرت سنوات سجنه التي قاربت على الست سنوات وانتهت في 1964 بل وامتدت حتى بعد منتصف السبعينيات من القرن الميلادي الماضي ومن ثم فقد جاء انتقاله بعد مراجعة عميقةووعيكامل بالطروحات اليسارية بما تضمنته من موقف رافض للدين أو متحفز ضد ثوابته وأما الثاني فقد منحت تلك المرحلة الدكتور عمارة سواء بشكلها السياسي التنظيمي أو الفكري الأيدلوجي قدرة فائقة على مناورة أتباع هذه الاتجاهات وتسليط الضوء على ما يخفى على الكثيرين من الذين لم يخوضوا تجربة الانتماء السياسي أو الأيدلوجي وهو ما كان يلزم هؤلاء الحذر من الخوض فيما يمكن أن يفنده الدكتور عمارة ويرده عليهم ويعري افتراءتهم وبالتالي لم ينهجوا في حضوره ما كانوا ينهجونه في غيابه حيث التفوه بالترهات والزهو بالاباطيل مراهنين في ذلك على جهل الآخرين الذين لا يملكون الرد وكأنهم يتمثلون وبشكل دائم ما يمكن أن ينطق به الدكتور عمارة قائلا لهم "إحنا دافنينو سوا".
ويشترك الدكتور عمارة في ذلك مع عدد من المفكرين الإسلاميين الذين شهدوا ربما نفس التحولات الفكرية يبرز منهم الكاتب والمفكر الإسلامي الراحل الأستاذ عادل حسين الذي اهتم بالفكر السياسي الإسلامي والمفكر المستشار طارق البشري الذي اهتم بتاريخ الحركة الوطنية والمفكر الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي اهتم بالفلسفة الأمر الذي أكسب كتاباتهم وإسهامتهم الفكرية أهمية بالغة تمايزت عن غيرها في هذه المجالات التي طرقوها.
كذلك فإن ثمة نقطتين في غاية الأهمية ترتبا على هذه التجربة السياسية والفكرية التي مر بها الدكتور عمارة:
الأولى أنها أكسبته قدرة تنظيرية رائعة لم تتوافر للكثير من الباحثين والأكاديميين الإسلاميين بل لا نكون مبالغين إذا قلنا أنها كانت أحد أهم ما قدم الدكتور عمارة لقطاع شعبي واسع ربما أبهرته هذه القدرة التنظيرية وكانت صاحبة الفضل الكبير في أن لفتت نظر الكثيرين من غير النخبة للاطلاع على كتاباته ومن أهمها مناظرة معرض الكتاب المشهورةعام 1992م "الدولة الدينية والدولة المدنية" ليكون بعدها الدكتور عمارة الكاتب الإسلامي الأول والمفضل لدى الإسلاميين الناشطين حركيا وفكريا.
والثانية أنه كان لها أثرها الواضح في تحديد ملامح المشروع الفكري للدكتورعمارة فقد ألقت التجربة بظلالها على كينونة هذا المشروع حيث استشعر الراحل خوفا على الهوية الإسلامية نتيجة موقفين كلاهما لا يعبر في نظره عن الإسلام الأمر الذي دفعه إلى القيام بعبء الرد على ذلك من خلال مشروعه الذي قال عنه: "وهذا المشروع الذي بدأته وكنت حريصا على الاستمرار فيه، يهدف إلى إلقاء أضواءجديدة بمنهج جديد على الفكر التراثي والفكر الإسلامي وتحقيق نصوص من التراث القديم، والتراث الحديثبحيث نستطيع أن نكون عقلية علمية مرتبطة بأصولها الفكرية وتعيش العصر الذي نحن فيه، لأن القضيةً التي نعاني منها في ثقافتنا الإسلامية هي أن لدينا أناسا متغربين لا يعرفون إلا الغرب، أو أناسا تراثيين لا يعرفون إلا التراث القديم، فهناك استقطاب في الحياة الفكرية: قوم يتقنون الكتابة في الإسلاميات، لكن لا يستطيعون محاورة الأفكار الأخرىوكسر شوكتها، وآخرون يتقنون الفكر الغربي، ويجهلون قضايا الفكرالإسلامي، فكان مشروعي يستهدف تكوين عقلية إسلامية مرتبطة بالهوية الإسلامية والجذور الإسلامية،وفي الوقت نفسه قادرة على رؤية الإسلام في ضوء الفكر الآخر، ورؤية الفكر الآخر في ضوء الإسلام،وهذا يجعلنا نكتشف ميزات وتفرد الإسلام إذا قارناه بالآخر.هذا المشروع حاولت تأصيله في كتبي التي وصلت إلى أكثر من 200 ً كتابا".
وللحديث بقية..