الجمعة 22 نوفمبر 2024
توقيت مصر 09:00 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

مدينة مأرب وجهادٌ نحو الدولة المدنية الحديثة

محمد معافى المهدلي
ألا سبحان من يُغيّر ولا يَتغيّر، من المثير للتساؤل في صدر هذا المقال، ما علاقة مدينة مأرب المعروفة سلفاً بالعصبية القبلية والبداوة، بل والهمجية، حسبما كان يروّج له أنصار وجيوش النظام السابق عن المدينة المسالمة الجميلة مأرب، ما علاقتها بالدولة ، وبالمدنيّة والحضارة اليوم؟!.
أحسب أنه كان هذا التساؤل مشروعاً وبدهياً أن يطرح، سابقاً،  ولا أراه اليوم مناسباً بنفس هذه المشروعية والقدر هذه الأيام، فمن يزور مدينة مأرب، ويقلّب صفحاتها وجنباتها وزواياها وآثارها ومساجدها وسدّها الشامخ وجامعتها ونهضتها العمرانية، وشوراعها وفنادقها الجميلة، ومدارسها ومراكزها العلمية، وسهولها وجبالها، يجزم أنّ المدينة على أبواب تغيّر تاريخي كبير، يعيد للمدينة – أرضاً وإنساناً - حضارتها ومجدها وسؤددها.
إنّ المدنيّة تعني في أسسها الأولية وقواعدها العامة، فيما أحسب، التعايش والإخاء الإنساني والتطور العلمي والصناعي والتجاري والعمراني، والعدالة الإنسانية والديمقراطية والمساواة، فأثناء تجوالنا في مدينة مأرب لثلاثة أيام، لاحظنا أنّ المدينة تنعم بإخاءٍ وتحابّ وألفةٍ اجتماعية وانسجامٍ قلّ أن تجد له نظيراً في عالمنا المادي المعاصر، فقد علمنا أنّ بعضاً من أبناء مدينة مأرب جادت نفوسهم بقطع شاسعة من الأراضي، لإخوانهم النازحين إلى المدينة طلباً للأمن والسلامة والاستقرار، وفراراً من الاضطهاد الحوثي، وذلك لبناء مساكنَ وبيوتاً لهم تأويهم، وتقيهم الحرّ والبرد، حتى تنكشف الغمّة الحوثية الجاثمة على صدر اليمن السعيد، منذ سبتمبر 2014م، بل وجد المهاجرون والمهجّرون من المحافظات إلى مدينة مأرب من الحبّ والإخاء والفرص العلمية والتعليمية والتجارية ما لم يجدوه لعقود في صنعاء أو صعدة أو الحديدة أو عدن .
إنني أزعم أنّ رأس المال الوطني اليمني رأس مال جبّار وقوي، فما أنْ يجد متنفساً ولو يسيراً من الحرية والعدالة والمساواة والاستقرار، فإنه يصنع العجائب في عالم التجارة والصناعة والمال والفن والعلم، ولعلّ ما تعيشه مدينة مأرب وسيئون وحضرموت وغيرها من المحافظات المحررة، خير شاهدٍ على ما أقول.


لقد ذابت في مدينة مأرب كل الفوارق الجهوية والحزبية والمناطقية والطبقية، فلا تكاد تسمع في المدينة أيّ صراعٍ يذكر، فقد باتت المدينة مدينة الحب والسلام، بحق، وهذا الذوبان ليس بفعل سلطة الدولة، وإنما بفعل ثقافة المجتمع ووعي الشعب الذي وجد في المدينة الحرية والسلام والأمن والاستقرار، الذي منّ الله به على المدينة، وصنعته الصحافة والإعلام ومراكز التوجيه ومديريات الأمن والباتريوت لدول التحالف، مشكورة. 
في آخر يومٍ تمكنّا من زيارة جامعة إقليم سبأ، وحظينا بالسلام على سعادة مدير الجامعة، وبعض عمداء الكليات وبعض أعضاء هيئة التدريس في الجامعة، وكانت الصورة أكثر من رائعة ومشرقة، وتبعث على السرور والتفاؤل والأمل، فالجامعة تضم أكثر من عشرة آلاف طالب وطالبة، وفيها المكتبة العلمية، ومعامل الكيمياء والفيزياء والحاسوب، وأروقة الجامعة وقاعاتها التي شاهدناها غاية في الجمال والروعة، ورغم ظروف المحافظة المالية الصعبة، إلا أنّ ثمة تضحيات جسيمة يقدمها كل منسوبي الجامعة، فالجميع يعمل بجدٍ وإخلاص وتفانٍ منقطع النظير، كما أنّ الجامعة تتوسع في مبانيها وكلياتها وإداراتها وبرامجها العلمية والتعليمية، وتقنياتها وخدماتها المجتمعية، وقد صادف زيارتنا للجامعة يوم الطبق الخيري، الذي أقامته طالبات الجامعة،  ولعلّ من حسنات الحرب إن كان لها حسنات، أن هجّرت الحرب العقول الفذّة والخبرات العلمية من المحافظات إلى مدينة مأرب، ومنها إلى الجامعة، ويبدوا لي أنّ من أهم عوامل النهضة العلمية والثقافية والعمرانية والمدنيّة التي تعيشها المدينة، والتي ما كانت لتكون لولا النزوح البشري الهائل إلى المدينة، وهو ما صنع تنوعاً فكرياً وثقافيًا وعلميا، وكما قيل : "رب ضارة نافعة".  
لا يفوتني هنا أن أسجل نقطة كان حقها أن تتقدم ألا وهي أننا لمسنا نهضة روحية مباركة، فمع قرب صلاة الفجر توقظك مساجد المدينة، بأذانين متعاقبين،  وفي الفجر وسائر الصلوات، تمتلأ المساجد بالشباب والأطفال، ولعلّ من الصور الرائعة التي لا تنسى، والتي شاهدناها في المدينة حلقة لبعض الأطفال الصغار، وهم كالكواكب الدريّة، وهم يتلون القرآن العظيم، قبل إقامة صلاة الفجر، فكم في الصورة من دروس روحية وإيمانية يتعلمها الكبار من الصغار، ويأسرك في المدينة القنوت والدعاء والتضرع إلى الله بالنصر والظفر للمرابطين في الجبهات، وزحام العبّاد والقانتين على الصف الأول . 
أخيرًا  لا ?خراً، خلال زيارتنا هذه المرّة، والتي سبقتها زيارة أخرى للمدينة قبل نحو ستة أشهر، لمسنا تحسناً جيّداً في الخدمات العامة كالكهرباء والمياه، ورأت أعيننا جهوداً كبيرة وجبارة تبذلها المحافظة لتحسين خدمات المدينة، فثمة مشاريع كبيرة يجري إنشاؤها كما علمنا منها المطار وبعض الحدائق والمتنزهات والتشجير وخدمات المياه والصرف الصحي، والمشافي والمراكز الصحية، والإذاعة والإعلام، وليت المحافظة تتمكن من إنشاء قناة فضائية خاصة بالمحافظة، وهو ما يطرح تساؤلا عن مدى الرضى والقبول الشعبي عن دور الدولة في توفير الخدمات الأساسية للمواطنين، فالجميع يعلم أنّ ثمة صعوبات كبيرة تواجه الحكومة الشرعية في ظل ظروف الحرب، والتآمر الداخلي والخارجي على البلاد، بيد أنه مع ذلك تجد ضعفا كبيرًا للحكومة الشرعية يجزم به كل المراقبين للشأن اليمني، وأنّ هذا الضعف في جزئه الأكبر إنما هو من داخل الحكومة لا من خارجها. 
ختاماً تمنياتنا للمحافظة وقيادتها مزيداً من التقدم والازدهار في شتى المجالات والميادين، وكلنا أمل في الله عزوجل ورجاء أن تتكرر زيارتنا لمدينة مأرب الحضارة والتاريخ، وهي أكثر أمناً وازدهاراً واستقراراً. 


واخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.