الأحد، 01-11-2020
11:04 ص
اذا كان سيدنا أدم عليه السلام هو سر وجود
الانسانية فإن
سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام هو سركمالها ..هكذا قال أهل الطريق.. ولعل صفة (الإنسان الكامل) التى كان عليها
الرسول الكريم من حيث كونه
بشر يأكل الطعام ويمشى بين الناس من أكثر الأشياء التى اثارت الغرب وحركت فيه بواعث الحقد والتعصب والكراهية ..وقد كان
صلى الله عليه وسلم الإنسان الكامل زوجا والإنسان الكامل صديقا والإنسان الكامل قائدا ..رغم أن مبلغ العلم فيه أنه
بشر/لكنه كان خير خلق الله كلهم ..حياة وسيرة وأثراً كما قال البوصيرى (1213-1295م)
والبوصيرى على فكره من أمازيج الجزائر ليس عربيا ولكن عاش بمصر ومات بها وكان من تلاميذ أبو العباس المرسى أحد كبار المدرسة الشاذلية فى السلوك والتصوف..ولعل صدقه الشديد فى كل كلمه قالها فى هذه القصيده هو ما كتب لها هذا الانتشار والاستمرار وتقريبا كل الشعراء كانوا يكتبوا قصائد المديح وعيونهم على البردة (مولاى صلى وسلم دائما أبدا /على حبيبك خير الخلق كلهم)..ولم يقل البوصيرى إلا هذا اليت لكفاه رغم أن القصيدة كلها حوالى 150 بيت .
****
والغرب بالفعل كما علمنا القرآن فى تقدير الأمور(ليسوا سواء..)وهم كذلك بالفعل فى موقفهم من الإسلام ونبى الإسلام .. فمنهم المنصفون وذوو رأى وأكثر هؤلاء من الأدباء والمثقفين والمفكرين.. ومنهم الكارهون والحاقدون وأكثرهم من السياسيين والحكام ورجال الدين ..
ولأنى (جوتاوى) قديم من أول ما قرأت له (ألام فرتر)رواية الحب والأحزان الشهيرة من 30 سنة تقريبا ..ولأنه علم على رأس الثقافة والفكر الغربى ..سيظل (جوته)هو الإسم العملاق فى الثقافة الغربية الذى لم يكتف بإنصاف(النبى محمد )فقط بل أحبه حب تملكه وتملك عليه عقله وقلبه وشاعريته العبقرية .. إنه يوهان فولفجانج جوته (1749-1832) الألمانى ابن فرانكفورت الذى شغف بالإسلام وشريعته والقرآن وبلاغته ومحمد ورسالته..جوته أخذ يبحث عن الظاهرة الأولية للدين _أى دين_ فى الأديان المختلفة مقبلا عليها جميعا فى قوة من العقل وخصب من الوجدان وفسحة من أفق الفكر ووصل الى تلك الحقيقة العميقة التى صاغها فى جملته الشهيرة (إذا كان الإسلام معناه التسليم لله فعلى الإسلام نحيا ونموت جميعا ).
كتب (جوته)مئات الصفحات يمجد فيها
الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ووصف أمة العرب والاسلام بأنها أمة شجاعة باسلة لا تهاب الموت بل إن الموت يهابها وأدرك عالمية الاسلام وخلوده فقال: ما كان لهذا الفيض النورانى أن يبقى مقصورا على الصحراء يغيض فى رمالها وتمتصه شمسها ويصده الكثيب.
اقرؤوا وصفه للحظة تنزل الوحى على النبى الكريم (حينما كان يتأمل الملكوت جاءه الملاك على عجل..أتاه ومعه النور..اضطرب من كان يعمل راعياً وتاجرًا فهو لم يقرأ من قبل ..والملاك أمره بقراءة ما هو مكتوب.. وأمره ثانية: اقرأ.. فقرأ..).
****
يصور(جوته )شخصية الرسول
صلى الله عليه وسلم فى قصيدته (أنشودة محمد)والتى تصورفيها
الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم نهرا بدأ يتدفق رفيقا رقيقا هادئا ثم لا يلبث أن يجيش بشكل مطرد فيتحول فى عنفوانه إلى سيل عارم يجذب إليه جميع الجداول والأنهار المجاورة ليصب الجميع فى زحفها الرائع فى بحر المحيط...) ويقول أيضا واصفا الرسول
صلى الله عليه وسلم (محمد نبى مرسل لغرض مقدر مرسوم يتوخى إليه أبسط وسيلة وأقوم طريق وهو إعلان الشريعة وجمع الأمم من حولها..فالكتاب المنزل على محمد إنما بعث للناس ليحفزهم للإيمان باللـه) .
والحقيقة أن جوته كان يشعر بعاطفة عميقة تجاه الإسلام وعلاقته بالثقافة العربية والإسلامية بدأت مبكرا حتى أنه قال (أنه لا يكره أن يشاع عنه أنه مسلما) .. جوته درس القرآن باللاتينية والألمانية والانجليزية ووجد فى الإسلام ما يتوافق تماما مع أفكاره ومذهبه فى الحياة..
****
لكن حفاوتنا بـ(جوته)وما قاله عن النبى الكريم لا تشغلنا عن ما كتبه أعظم فيلسوف عربى في العصر الحديث _بلا مبالغة وهذا وصف د.طه حسين على فكره_ انه بن دمياط الدكتور عبد الرحمن بدوى(1917 -2002م)
والذى كتب كتابين بالغى الأهمية ( دفاع عن القرآن ضد منتقديه) و(دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره) سيُقرأ الكتابان بعد عشرات السنين قراءة مرجعية واسعة وسيكونا جزءً من المكتبة الصلبة للفكر الاسلامى فى العصر الحديث مثل كتب عزت بيجوفيتش وعبد الوهاب المسيرى رحمهما الله وأضم لهم كتاب (الاستشراق) للمسيحى الكاثوليكى (د.أدوارد سعيد )الذى قلب طاولة الاستشراق العريقة على رؤوس مفكرى الغرب رأسا على رأس ..كتابى د/ عبد الرحمن بدوى نشرتهم مجلة الأزهرهدية لقرائها فى عهد رئاسة تحرير المفكر الموسوعى د/ محمد عمارة(1931 -2020م) رحمه الله .
يقول فى مقدمة كتاب(دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره):خلال تتبعي للمفاهيم التي تبناها الأوربيون حول نبي الإسلام محمد انتابني الذهول من جهلهم المطبق وعدوانيتهم الواضحة وأحكامهم المسبقة المتأصلة وتحزبهم الطاغي ضد خصومهم.
****
ود/ بدوي من قافلة الكبار فى الفكر والثقافة العربية الذين حلوا وارتحلوا فى دنيا الفكر والفلسفة والثقافة ثم حطت رحالهم في(واحة الاسلام العظيم )وقال عن ذلك : أى عقل ناضج يفكر لا يثبت على حقيقة واحدة..ولكنه يتساءل ويستفسر ويطرح أسئلته في كل وقت..وأضاف :لا أستطيع أن أعبر عما بداخلي من إحساس الندم الشديد لأنني عاديت الإسلام والتراث العربي لأكثر من نصف قرن..أشعر الآن أنني بحاجة إلى من يغسلني بالماء الصافي الرقراق لكي أعود من جديد مسلماً حقا..إنني تبتُ إلى الله وندمت على ما فعلت وأنوي إن شاء الله أن أكون جنديا للفكر الإسلامي وللدفاع عن الحضارة التي شادها الآباء والأجداد والتي سطعت على المشارق والمغارب لقرون وقرون .
قال فى إحدى حواراته تعليقا على أحداث فرنسا الأخيرة التى ستحدث بعد وفاته بـ 18 سنة ! : إن عنصرية الغربيين ضد الإسلام واضحة..فالغرب فيما يتعلق بالإسلام يكيل ليس بمكيالين فقط بل ربما بعشرة أو ربما بمائة مكيال ..والغرب لا يريد أن يفهم من الإسلام إلا ما يريد هو أن يفهمه..ولذلك يرحب ويفسح المجال أمام ترجمة مؤلفات العلمانيين دون غيرها..
يبقى ان نعلم أن د/عبد الرحمن بدوي كان أحد أعضاء لجنة ( دستور 1954)مع د/طه حسين ود/عبدالرزاق السنهوري ود/لطفي السيد /وشيخ الازهر الشيخ عبد الرحمن تاج /والأنبا يوأنس بطريرك الكنيسة القبطية /وزكى العريبى المحامى وعميد الطائفة اليهودية بمصر .
لكن د/بدوى عاش عمره كله ناقما على حركة يوليو ونتائجها..وذكر تفاصيل ذلك فى سيرة حياته الهامة (سيرة حياتى) فى جزئين عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر سنة 2000م وهي سيرة ضخمة مليئة بالأحداث الكبيرة والتجارب والمواقف الهامة.
****
واختم بأبيات الشاعر الكبير أحمد محرم(1877 – 1945م) إبن دمنهور(مدينة النور) والتى قالها فى ذكر مولد
الرسول الكريم :
لا اليوم يومك إذ ولدت ولا الغد/يا ليت أنك كل يوم تولدُ .
عاد الظلام كما عهدت وهذه/ دنيا الجهالة والأذى تتجددُ.
ما أوجع الذكرى ويا لك لوعة/ في قلب كل موحد تتوقدُ.