الثلاثاء 05 نوفمبر 2024
توقيت مصر 16:35 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

نصر من قلب الهزيمة

يوم الخميس الماضى 9 يناير تكون قد مرت على وفاة هولاكو خان 755 سنة ,, ما أهمية ذلك ؟ وما أهمية الاشارة الى اسم(هولاكو) في هذا الوقت الحزين من تاريخ الأمة؟ أهمية ذلك ستشعر بها وانت ترى بوتين في دمشق الأسبوع الماضى يتصرف فيها مثل هولاكو ..أهمية ذلك وأنت ترى ترمب يرتع في بغداد شرقا وغربا مثل هولاكو .. حواضر حضارتنا الكبرى أصبحت في ملك يمين التتار الجدد .
حفيد جنكيز خان لم يهزم إلا مرة واحدة في حياته كلها (48 سنة) وكانت هزيمته على يد مصر والمصريين وليس أنسب من هذا الوقت لنتذكر تلك الأيام التى كانت ومضت ,,الظرف التاريخى وقت سقوط واحتلال بغداد ودمشق على يد هولاكو ,, كان أكثر سوء وتعقيدا من الظرف التاريخى الذى نعيشه الأن ,, ودمشق وبغداد في يد التتار الجدد..وكما انطلق النصر وقتها من قلب الهزيمة ..كذلك سينطلق إن شاء الله نصر أعظم وأكبرمن قلب هذه الأيام.

***
كانت فترة من أشد الفترات التى مرت بالتاريخ العربي والإسلامي رعبا وهولا إذ وجدت الأمة نفسها مهددة تهديدا لم يسبق له مثيل..كان تهديدا مزدوجا ,, فالصليبيون لايزالون يشكلون تهديدا مباشرا فى بعض مناطق الشام .. وإذ بهولاكو وجيشه الذى لا يُهزم يقف على أبواب بغداد ليدخلها بعد الخيانات المعروفه في  فبراير 1258 م ,, قتلوا الخليفة المستعصم وهدموا المنازل وحرقوا المساجد وسفكوا الدماء وخربوا المكتبات وعمّ الخوف والهلع والذعرالمنطقة كلها إلى حدود لا يصدقها عقل.. وتتابع سقوط المدن كما أوراق الشجراليابس فى الخريف.. لم يمر عام الا وكان هولاكو في دمشق وغدا العالم الإسلامي كله على حافة الهاوية.. ولم يبق من معاقل القوى الإسلامية سوى مصر..واسطة العقد ومربط الأمان,,ولم تكن إلا مسألة وقت وإعداد حتى عقد هولاكو النية على مهاجمه مصر وكان بينه وبين بعض الممالك الصليبية المتبقية على ساحل المتوسط اتصال وتشاور..ولنا ان نعلم ان زوجه هولاكو كانت مسيحية شديدة التعصب وكان قائد جيشه(كتبغا) مسيحى متعصب أيضا ..
***
لا قيمه لأي نصر فى الشرق كله دون الاستيلاء على مصر.. تلك حقيقة من حقائق التاريخ و الاستراتيجيا حتى يومنا هذا..وكانت أثار حطين لاتزال باقيه..هكذا قال التاريخ للاسكندر من قبل ولنابليون من بعد,,                   
كان يحكم مصرفي ذاك الوقت ابن المعز أيبك الذى كان قد توفى عام( 1257 م) و كان عمر ابنه 15 سنة فقام سيف الدين قطز بعزله وأمسك بزمام كل شىء(1259م )وقال للأمراء:(إني ما قصدت إلا أن نجتمع على قتال التتار ولا يتأتى ذلك بغير ملك ,, فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدو,, فالأمر لكم أقيموا في السلطنة من شئتم) واستتب له الأمر ,, لم يكن تهديد مصر قد ظهر بعد بوضوح.. لكن التاريخ يقول أن من يستقر في الشام لابد له أن يذهب الى مصر..والعكس صحيح ,, وهو ما حدث بالفعل .                                  ***
كان قطز شديد الفطنة وصاحب مبادرة فى تعامله مع الأزمات فبدأ بترتيب البيت من داخله استعدادا للخطر القادم واستطاع أن يستبدل كل عنصرنقص بكل عنصرمن الكمال ما استطاع,, فعمل على مصالحة المماليك المعزية على المماليك البحرية واستقدم ركن الدين بيبرس أحد أفذاذ العسكرية في التاريخ والذى كان هاربا من مصر..وسعى إلى الوحدة مع الشام أوعلى الأقل تحييده دون أن يتعاون أمراؤه مع التتار ضده لكنه فشل في ذلك وفضل أمراؤه أن يتحالفوا مع هولاكو..وكان مصيرهم فى الحضيض الأسفل من التاريخ..كما كثيرون قبلهم وبعدهم.
على الجانب الأخر كان الوضع النفسي في العالم الاسلامى ومصر فى حاله من التردى لم تحدث من قبل خاصة وأن العالم الإسلامي كان بلا(خليفة)لأول مره منذ وفاه الرسول صلى الله عليه وسلم ..وكان الخوف من التتار مستشريا في الأمة كلها..العامة والخاصة وعمّ الفزع والهلع قلوب المصريين من هول ما وصلهم من أنباء المغول وبأسهم وتنكيلهم بالمسلمين ففركثير من التجار الى المغرب والحجاز..
***
كان قطز على وعى باستراتيجية(الرعب الأسبق)التى انتهجها هولاكو من البدايات الأولى لتحركه وبالفعل كان قد ارتكب أفعالا من شأنها أن تنتشر بسرعة بين الناس فتصيبهم بالرعب,, مثل تدمير حلب وحرق الناس أحياء,, ومن قبل فى ديار بكر حيث قتل قائدها بتقطيع لحمه حيا ووضعه فى فمه..ناهيك عما حدث فى بغداد كان يقصد من وراء ذلك إحداث (الهزيمة النفسية) في صفوف خصومه قبل ان يصل اليهم ..
وأرسل رسله إلى مصر برسالة شديده الوقاحة يطلب فيها الاستسلام ,, ومما ورد فيها: سلموا لنا الأمر تسلموا ,, قبل أن ينكشف الغطاء فتندموا ,, وقد سمعتم أننا خربنا البلاد وقتلنا العباد ,, فكيف لكم الهرب ولنا خلفكم الطلب؟
فما كان من قطز إلاّ أن حبس الرسل ,, واستشار الأمراء والعلماء فأيد أكثرهم الحرب وكان حتما عليه أن يرد على الرسالة بما يناسبها وأكثر,,فمزق الرسالة وقتل حامليها بطريقه تنطق بكل ما ينوى عليه من شراسة فى مواجهه الشراسة وجنون فى مواجهه الجنون..يقولون ان هناك مشاكل(مجنونة)ليس لها الا حلول(مجنونة)..   وقد كان..فيقتل الرسل بفصل نصفهم الأعلى عن نصفهم الأسفل !! ويعلقهم على باب زويلة ,, وأطلق أحدهم ليعود ويصف ما شهد لقادته..ويبدو أن ذلك كان ضروريا لشحذ همم الناس وإزالة بعض آثار الرعب والهلع من نفوسهم من هول الأخبار التى كانوا يسمعونها ..فوضع بذلك البلاد كلها على طريق الحرب ووصلت المواجهة الى نقطة اللاعودة,, وكان ذلك أول مشاهد النصر..                                                                   لا يفوتنا هنا الاشارة القوية الى موقف الشيخ العز بن عبد السلام الفقيه والشيخ ابو الحسن الشاذلى الصوفى والذى كان من المواقف التاريخية الملهمة في التحريض والاعداد وحثّ الناس على بذل الأموال والأرواح .
***
خرج الجيش من مصر بقيادة قطز وقائد طلائعه بيبرس وشاءت الأقدار أن يغادر هولاكو الشام ويعود إلى بلاده تاركًا مهمة إكمال الغزو لقائدة الكبير(كتبغا) وقبل أن يغادر كان قد أرسل إلى قطز رسالته الوقحة التى تحدثنا عنها أولا..والتقى الفريقان في عين جالوت..اضطربت الأمور في أول الأمر فى صفوف المسلمين..فألقى قطز خوذته عن رأسه - ويبدو أنه كان يدرك تماما أن الجيوش تحارب بأرواحها قبل أسلحتها- وصاح أمام الجيش: وإسلاماه وإسلاماه .. يا الله انصر أمتك ولا تنصر عبدك قطز..وحمل بنفسه عليهم وانتهت المعركة بانتصار مهول للمسلمين ومقتل القائد كتبغا ومطاردة التتار حتى حلب ودمشق وتحرير الشام كله منهم وضمه إلى مصر
لكن قطزأخطأ خطأه الكبير بعدم تعيين بيبرس واليا على حلب كما طلب منه ..وللسياسة حساباتها المركبة خاصة فى مرحله ما بعد النصر – أي نصروفى أى وقت - فهل كان ينوى جعله الرجل الثاني فى الدولة عند استقرار الأمور فى مصر ؟؟ أو هل كان يخشى استقلاله بالشام وتعريض الأمن القومي ثانيه للخطر؟؟ كلها أسئله تقف على قدميها بقوه حين يكتب التاريخ أن قائدين عظيمين ينتصران فى معركة عظيمة وهما يطلبان النصر أو الشهادة فيقتل أحدهما الأخر.!
رحل قطز بعد أن حكم مصر عاما أو أقل,, تاركاً للأمة و للتاريخ رسالة قويه يقول فيها أن مكانة القادة لا تقاس بالأعمارولا بالأزمان ,, إنما تقاس بساعات المجد الكبيرة,,  وما تتركه هذه الساعات من عميق الأثر فى مجرى التاريخ كله.