الخميس، 11-06-2020
05:21 م
خضر خضور
بعد حوالى عقدين من تربّع رامي مخلوف، ابن خال الرئيس بشار الأسد، على عرش إمبراطورية الأعمال في سورية، يبدو أننا نشهد اليوم أفول هذه الهيمنة. ففي 19 أيار/مايو، حجزت السلطات على أصوله هو وأفراد أسرته، فيما تسري تكهّنات بأن سقوط مخلوف سيُحدث شقاقاً سريعاً قد لا يمكن رأبه في أوساط الدوائر الداعمة للنظام، ولاسيما في صفوف العلويين.
لكن هذا الأمر مستبعد على ما يبدو. فشقيق مخلوف كتب مؤخراً منشوراً على فايسبوك انتقد فيه رامي، مؤكّداً على ولائه للأسد. إذن، يشي تصرّف شقيق رامي بأن حدوث انشقاق جماعي للعلويين عن الأسد أمرٌ بعيد المنال. بل السؤال الأهم ما يمكن أن يكشفه مصير رامي مخلوف حول المشهد الاقتصادي وبيئة الأعمال في سورية، خصوصاً مع اقتراب تطبيق قانون قيصر لحماية المدنيين في سورية،والذي يشكّل جزءاً من قانون إقرار الدفاع الوطني للسنة المالية 2020. إذ يفرض هذا القانون عقوبات على النظام السوري لارتكابه جرائم حرب، كما يفرض عقوبات على الجهات التي تتعاون اقتصادياً مع النظام والهيئات التابعة له. ومن المتوقع أن يدخل هذا القانون حيّز التنفيذ هذا الشهر.
سيفاقم قانون قيصر عزلة النظام. فثمة جهات عدة، من بينها رجال أعمال ودول في الشرق الأوسط، قد تعيد النظر بشأن مواصلة التعامل مع النظام على ضوء المخاطر الكبيرة التي تُحدق بها. وواقع الحال أن هذا القانون سيقسم سورية إلى منطقتين: الأولى تضم المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام، والثانية يمكن تسميتها "المنطقة الشمالية". تتضمن المنطقة الشمالية الشمال الغربي الخاضع إلى سيطرة قوات المعارضة المدعومة من تركيا، إضافةً إلى الشمال الشرقي الخاضع إلى قبضة قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد وتحظى بحماية الولايات المتحدة. ونظراً إلى أن قانون قيصر يسمّي تحديداً الحكومة السورية، ستُستثنى من العقوبات المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. وبالتالي، مع دخول قانون قيصر حيز التنفيذ، يبدو أن وطأة الضغوط الاقتصادية ستدفع النظام إلى الاعتماد أكثر على المناطق الشمالية.
قد يتمكّن التجار المحليون من استخدام شبكة اتصالاتهم وعلاقاتهم ليكونوا وسطاء مع العالم الخارجي من أجل إمداد المناطق السورية الخاضعة إلى سيطرة الحكومة بالحاجات اللازمة عبر تركيا والعراق. بالنسبة إلى شمال شرق البلاد، حيث يستخدم معظم السكان الليرة السورية، سيشمل ذلك بشكل أساسي منتجات محلية مثل النفط والقمح. وبالنسبة إلى شمال غرب البلاد، حيث الليرة التركية والدولار الأميركي أكثر شيوعاً، ستشمل الحركة بمعظمها صناعات رخيصة مستوردة من تركيا.
ترتدي الضغوط التي ستدفع النظام إلى الاعتماد على هذه المناطق طابعاً أكثر إلحاحاً نظراً إلى خسارة لبنان، الذي يرزح منذ تشرين الأول/أكتوبر 2019 تحت وطأة أزمة مالية وسياسية حادة. فمنذ الستينيات، أتاح لبنان، وخصوصاً القطاع المصرفي اللبناني، المجال أمام سورية لإجراء معاملاتها التجارية والمالية الدولية متفاديةً العقوبات الغربية. كذلك، شكّل لبنان نافذة سورية نحو الخارج. لا شكّ إذاً أن عجز لبنان عن لعب هذا الدور سيؤدّي إلى مضاعفات كبرى تلقي بثقلها على الاقتصاد السوري.
طيلة سنوات النزاع في سورية، هيمنت على اقتصاد البلاد فئتان من اللاعبين الاقتصاديين البارزين: تتألّف الأولى من نخب تتمتّع بشبكة واسعة من العلاقات وتتحكّم بحصص كبيرة في قطاعات رئيسة مثل السلع الأساسية والطاقة والاتصالات. كان مخلوف سابقاً الشخصية المهيمنة في قطاع الاتصالات، لكنه الآن يواجه بمنافسة من رجال أعمال جدد مثل سامر فوز والأخوة قاطرجي، الذين اكتسبوا نفوذاً خلال فترة النزاع.
أما الفئة الثانية فتتألف من مروحة واسعة من الوسطاء المحليين وأمراء الحرب وغيرهم ممن تمكّنوا من تحقيق الأرباح والاستفادة من سيطرتهم على قطاعات اقتصادية محدّدة من خلال احتكار أنشطة معيّنة، من بينها السيطرة على نقاط التفتيش وطرق التهريب. وفي حين تتحكّم الفئة الأولى بقطاعات كبيرة، تنشط الفئة الثانية على مستوى محلي أكثر، فتعمد إلى استغلال الاحتياجات الأساسية للسكان وتحقق ربحها من الفتات الذي يخلّفه كبار رجال الأعمال.
في هذا الإطار، يُرجّح أن يدفع قانون قيصر هاتين الفئتين إلى إقامة علاقات مع المناطق الشمالية، وبالتالي العمل كوسطاء في العمليات التجارية مستقبلاً. بعبارة أخرى، قد يساهم هذا القانون في جعل الاقتصاد السوري أكثر فساداً مما هو عليه الآن، لأن التعاملات الاقتصادية ستعتمد بشكل أكبر على الشبكات الشخصية، في ظلّ إشراف رسمي محدود أو حتى معدوم.
مع ذلك، تسبّب سقوط مخلوف بصدمة أخرى للنظام. إذ يُرجّح أن يستقي العديد من اللاعبين الاقتصاديين البارزين الدروس والعبر من سقوط مخلوف، ويستنتجوا أنه إذا تمكّن الأسد من إزالة ابن خاله، فهذا يعني أن أياً منهم قد يلقى المصير نفسه. وهذا قد يحفزّهم أكثر على تحقيق عائدات وأرباح سريعة، ويدفعهم على الأرجح إلى نقل أموالهم خارج سورية. تجدر الإشارة هنا إلى أن التخطيط والتطوير اللذين تحتاج إليهما البلاد على المدى الطويل سيصبحان أبعد منالاً. وإن دلّت قضية مخلوف على شيء، فهو أن نظام الأسد ليس شريكاً أو حليفًا يعوّل عليه، ولا حتى لأولئك الأكثر ولاءً له والأقرب إلى أوساطه الداخلية.
بينما يزداد شعور الأوليغارشية واللاعبين الاقتصاديين البارزين بانعدام الأمان، سيواجه المشهد الاقتصادي السوري جملةً من الصعوبات والتحديات، قد تدفع الوضع إلى الانفجار في أية لحظة، ما قد يؤدّي إلى انهيار مدمّر للغاية. وفيما تنكبّ هذه النخب على مصالحها الخاصة، حتى على حساب تماسك النظام، قد يبدأ المسؤولون في القصر الرئاسي بفقدان السيطرة على قراراتهم، أي أنهم قد يصدرون الأوامر، لكن لن يكون من الواضح إلى أي مدى سيتم الامتثال لها أو تنفيذها.
وما يزيد الطين بلّة أن كل هذا يحدث فيما التدهور الاقتصادي السريع في سورية يتطلّب اتّخاذ قرارات متّسقة أكثر إلحاحاً، ولاسيما أن حوالى 80 في المئة من السوريين يعيشون الآن تحت خط الفقر. إذن، بات الشعار المؤيد للأسد للعام 2011 "الأسد أو لا أحد" نبوءة ذاتية التحقق، إذ تقف سورية الآن أمام احتمال أن تصبح دولةً لا يسيطر عليها أحدٌ بالكامل.
قال أحد المقرّبين من النظام مؤخراً، وهو يصف الانهيار المحتمل في سورية: "سترى مثلاً كيف أن قائد مطار عسكري لن يفرّ مع عائلته وحسب، بل سيأخذ معه أيضاً سرباً من الطائرات"
نقلا عن مركز كارينجي للشرق الأوسط