الأحد، 06-09-2020
04:38 م
من يصدق أن حوار (الخلود) الذى دار بين سيدنا أدم و
إبليس وحدثت به معصية الخروج من
الجنة.. يدور الأن على مستوى
مارك زوكوربيرج مالك (
فيس بوك) وسيرجى ولارى ملاك(
جوجول) وباقى مجموعة جافا(اختصار لأسماء شركاتهم) والتى تضم أيضا أبل وأمازون .. وانضم اليهم ايلون ماسك صاحب شركة السيارات تسلا.. ومعهم مخترع ورجل أعمال خطير اسمه ريموند كورزوايل(72 سنة) الذي اخترع كمبيوتر ذكي قادرعلى التعرف على الأشكال والأصوات..كلهم أصحاب شركات رأسمالية شرسة,, ويحلمون بسيادة العالم وتوجيهه الوجهة التى يريدونها واقتحام مجال لم يسبق اقتحامه..(الجسد البشرى) ومعهم أيضا في ذلك عدد من المفكرين والفلاسفة ويلتقون في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس ..
يمولون ويشرفون وينظرون لمشروع تحول الإنسان من (الإنسان العاقل)إلى (ما بعد الإنسان) حيث (الانتصار على الشيخوخة وزيادة الذكاء وتغيير الشخصية وإلغاء المعاناة وفى النهاية ينتصر على الموت..) كما قال نوح هرارى(44 سنة) المؤرخ الإسرائيلي والذى اشتهر ذات فجأة فجيئة وأصبح من كبار فلاسفة البشرية !؟ وتخدم عليه ماكينة دعاية عالمية ضخمة.. هراري يعتقد أن الثورة البيوتكنولوجية ستصنع كائن أشبه بـ(سايبورج)كما في روايات الخيال العلمي الكائن الهجين بين (الإنسان والألة) مزيج من مكونات عضوية وهندسية وقادر أن يعيش إلى الأبد..والمؤرخ( المتزوج من رجل )يرى أن ذلك سوف يكون أكبر تطوربيولوجي منذ بدء الخليقة وسيكون إنسان المستقبل مختلفا عنا اختلافَنا الأن عن الشمبانزي!!..وسيتم كل ذلك عم طريق حقن روبوتات بالغة الدقة في الدم مهمتها تجديد الخلايا وإصلاح أى خلل في الجسد ..أو زرع شريحة مع عدد من الأدوات الدقيقة في الجسم تشحنه بطاقات لم يعرفها البشر.
****
والحقيقة أن الموضوع أكبر وأقدم من هرارى ومجموعة جافا ..إذ أن هناك تيار فلسفى وثقافى كبير في الغرب يعرف بتيار(ما بعد الإنسانية)فيلسوفه الأكبر وأكثرمن كتب فيه شاب اسمه نيك بوستروم(47 سنة) .. والذى يٌنظر للفكرة بقوله أنها نشأت مع الأساطير السومرية 1700 ق.م. والتى كانت تطرح بقلق وضيق أسئلة الخلود( أسطورة جلجامش الشهيرة والتى ستنتهى إلى حقيقة الضعف الإنساني والموت ثم التراب وأن الخلود يكون بالعمل الصالح وأفكار الحكمة وعمارة الأرض..لكنه لم يقل ذلك !). كما تناولها أيضا مفكرو العصور الوسطى فى أوروبا المسيحية مع هوجة الثورة العلمية على الكنيسة وبروز أفكار التنوير والرغبة في السيطرة على الطبيعة.. مرورا بفرانسيس بيكون ورواية (أطلنطس الجديدة) 1626م..وإيمانويل كانط بأسئلته الشهيرة 1750م.. وطبعا فرضية التطور التي أقترحها دارون في( أصل الأنواع)1859م..وتبلور علم الوراثة والكيمياء الحيوية.. ويضيف بوستروم مرحبا ومبشرا بالفكرة : لعلنا نأخذ بعض القدرات الحسية من الحيوانات مثل التوجيه المغناطيسي و حدة البصر وحاسة شم أكثر فعالية أو أجهزة الاستشعار للكهرباء والاهتزاز.. ويتحدث عن استحضار حالة (بهجة دائمة)..ويقول بصراحة مبهمة ومتعدية لحدوده : إننا تحت رحمة طبيعتنا الجينية عندما يتعلق الأمر بهذه الأمور..!!
ويضيف : (ما بعد الإنسانية) قد تسمح لنا بتجديد إرادتنا الذاتية وطباعنا الشخصية حتى تكون مهام مثل الإقلاع عن التدخين أسهل ..مما سيساعدنا على تعديل شخصيتنا بطريقه أكثر سهولة بحيث تكون مطابقة لقيمنا وأخلاقنا.. ويضيف :أفكار ما بعد الإنسانية هى رغبة وسعي الإنسان لتجاوز ذاته.
****
رغم أن الإنسان يبقي إنسان وهو يسمو على نفسه وهو يجاهد الخطأ ونزعات الشر بداخله وهو كفاح نبيل ويبعث على الرضى والثقة .. كما يتجاوز ذاته بتحقيق إمكانيات جديدة داخل طبيعته الإنسانية التى يعيش بها في سلام بعيد عن هذه التدخلات المريبة..
ثم أى بهجة تلك التى لا تتخللها بعض الأحزان حتى تعرف أنك تعيش أصلا فى بهجة ..وما قيمة التركيز على إطالة مدة الحياة بدلا من إعطاء هذه الحياة مادة ومعنى وغاية عليا.. وما قيمة التركيز على منحنا المزيد من الإدراك الحسي بدلا من الاستفادة بشكل أفضل من الحواس التي لدينا.. ثم إن البشر يجتمعون معا على أساس التعاون المتبادل بينهم وتغطية احتياجات ونقص بعضهم البعض مما يضع قواعد وتنظيم وأسس للسلوك الاجتماعي بينهم.
وكما يقال بالفعل أن أخطر الناس هم الذين يظنوا أنهم لا يحتاجون إلى أحد..ولعل الأية الكريمة في سورة العلق (كلا أن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) تشير إلى ذلك.. فإلاستغناء موجب للطغيان عند الإنسان.. أى إنسان...
ويقولون هنا أيضا أن من أهم ما يتميز به الإنسان هو(وعيه بضعفه) ذلك الوعى الذى يشكل حدا فاصل بينه وبين الآلة الميكانيكية .. ذلك الوعى الذى هو ضرورة من ضرورات الاجتماع البشرى.. فالبشر يتواصلون مع بعضهم لأنهم في الأصل يحتاجون لبعضهم ..أما الحديث عن إنسانية الاستغناء التام الخالى من النقصان والعيوب.. فإنها ستكون إنسانية مغلقة على نفسها..وعندها لا يعود من معنى للكلام عن الإنسان أصلا.
****
سنقرأ أيضا في سورة الرحمن(والسماء رَفَعَهَا ووضع الْمِيزَانَ / أَلا تَطغَوا فِي الْمِيزَانِ/ وأَقِيموا الْوزنَ بِالْقسطِ ولا تخسِروا الْمِيزَانَ ) .. التحذير من طغيان وخسران الميزان كما ورد في الأيات واضح وصارم خاصة إذا تحدثنا عن التدخل والتلاعب بقدرات وإمكانات البشر..وبالأخص في مجال الجينات البشرية والتي قد تكون خطوة هائلة إلى المجهول ويمكن أن تؤدي الأخطاء فيها إلى كوارث مرعبة ..
عمنا هابرماس(91 سنة)أخرالكبار من مدرسة فرانكفورت وصاحب نظرية مجتمعات (ما بعد العلمانية) قدم كثير من الانتقادات لهذه التدخلات .. فهو يعترض تماما على إضفاء الطابع الألي على البشر.. ويرفض تماما فكرة فرض رأي شخصي حول الكيفية التي ينبغي أن يكون عليها الوضع الأمثل للبشر وما يترتب على ذلك من انتهاك للاستقلال الذاتي.. أفكار هابرماس حول انتهاك (الاستقلال الذاتي)وإضفاء الصفة الألية والتلاعب بـ(الإرادة الحرة) للبشر.. بها قدر كبير من الحضور الديني والإنساني الراقي.
****
أغلبنا قرأ روايات تتناول هذه الأفكار.. والحقيقة أنها كانت مستقيمة في عرضها للموضوع مثل (دكتور جيكل ومستر هايد) لستيفنسون 1886م والتى رأينا فيها عدم قدرة الإنسان على التحكم في جرعات الدواء.. ودخوله في باب لم يستطيع الخروج منه.. رواية(عالم جديد شجاع) لهيكسلى 1931م والذى تنبأ برؤية مظلمة لمستقبل (الإرادة الحرة)للإنسان والدافع البشري والحرية التى ستحاصرها التكنولوجيا والممارسات القمعية والانغماس في الجنس والمخدرات.. ورواية( 1984 )لجورج أورويل 1948م والتى قدمت حالة مخيفةعن إمكانية إساءة استخدام العلم والتكنولوجيا في إستعباد الجماهيروهو ما حدث .
****
عدد من أصحاب أفكار(ما بعد الإنسانية) يقولون لنا : خطأ أن نختزل نظرية ما بعد الإنسانية فى فكرة العيش إلى الأبد(الخلود)..هذا غير صحيح بل وغير مطلوب.. فأقصى عذاب للإنسان أن يعيش للأبد داخل الزمن ..ما نريده هو الاهتمام بزيادة العمر و تحسين القدرات الإنسانية من خلال تطوير التقنيات التي لها القدرة على فعل ذلك في اطار مجموعة من الأفكار الإنسانية و المعرفية والأخلاقية والسياسية وأخلاقيات التدخل البيولوجي ..وهذا كلام جيد و محكوم بضوابط واضحة.. فهو يضع حدا فاصلا لإيقاف طغيان العلم بطغيان الإنسان به وبتطبيقاته.
ونحن نرى سعار وطغيان (مجموعة الجاف)ومن معهم.. سيكون علينا أن نقرأ هذه الأبيات للشاعر الانجليزى الكبير إليوت من قصيدته الأشهر (الأرض الخراب) 1922م : ما الجذور التي تتشابك/ وأية أغصان تنمو من هذه القمامة المتحجرة؟ / يا ابن الإنسان/ أيها العاجز عن الكلام أو التخمين/ أنت لا تعرف سوى كومة من الخيالات المشوشة.
إنهم ساذجون بشكل لا يصدق يا عم إليوت.