السبت، 29-02-2020
09:23 م
د. هشام الحمامي
هو بطل شعبى بكل المقاييس التى يعرفها التاريخ كله..بطل أرضعته أمه(مصر)من أصفى ألبانها وسقاه النيل من أعذب ماءه وأطعمه الطين من أكرم خبزه وعطره الياسمين من أبهى وأزهى وروده..إنه الشهيد البطل (إبراهيم الورداني)الذى دافع عن حق المصريين وأموالهم فى قناة السويس والسودان وثأر لهم من(دنشواى)..فقرر قتل أحد أكثرالناس أذى للمصريين في تاريخهم الحديث(بطرس باشا غالى)رئيس الوزراء وقتها(20 فبراير 1910م)..وبعد ستة اشهر وفي 28 يونيو نفذ حكم (الإعدام)في(غزال البر الشهيد الوردانى)وخرج المصريون في صباح يوم تنفيذ الحكم يبكون مرددين اشجن وأشجى وأصدق مواويلهم:
قولوا لعين الشمس ما تحماشي ** أحسن غزال البر صابح ماشي ..قولوا..قولوا.
كان الحزن عظيما جدا فى قلوب المصريين وجمعت أحدى المطربات الشعبيات كل هذا الحزن فى(موال) شاجية بحزن الناس.. وملأت صور الشهيد المقاهي والأماكن العامة وصدر قرار وقتها يُجرم أي مصري يحتفظ بصورته.!!
***
الموال لازال المصريون يرددوه حتى الأن ولكن ذاكرتهم لم يعد فيها اسم(غزال البر)إذ لم يقل لهم أحد من يكون..؟كما أن الموال إنتظم عليه(زجل عاطفى)أبعده عن ما أراده المصريون يوم قالوه ورددوه..(نادت جميلة_مصر_ قلنا جاى لك طاير..فوق الفرس الأحمر..والحر عنك ما يستغناش) و كما غناه كورال الموسيقى العربية.. ولا أدرى هل كان الشاعر الغنائى(مجدى نجيب)حين قال(دي الآه بقولها وهو ما يدراشي وفي بعده طعم الدنيا ما يحلاشي)فى الأغنية الشهيرة التى غنتها الفنانة الراحلة شادية ولحنها بليغ سنة 1966م..لا أدرى هل كان يقصد سحب المعنى المراد من الموال؟ وسحب ذكرى غزال البر من التاريخ ؟..كونه كان أكثر تعاطفا مع القتيل من الشهيد..؟ أم أن المسألة مجرد(نشاط فنى بحت)مجرد من أى قصد أخر خاصة وأن بليغ كان يعمل كثيرا على التراث الغنائى الشعبى.
على أية حال نحن أمام موقف عظيم لوطنى عظيم ..ردد له المصرى العظيم موال لا يٌنسى..وإن تناساه الناسون أو شوهه المتلاعبون قصدا أو سهوا.
***
الشهيد العظيم(1886_ 1910م) كان صيدليا حصل على شهادته من سويسرا وانجلترا عام 1909م وحين عاد لوطنه انضم للحزب الوطنى الذى أسسه الزعيم مصطفى كامل قبل وفاته بسنة واحدة(توفى سنة 1908م عن 34 عاما )..تقول الحكاية أنه فى اكتوبر 1909م انتشر بين الناس خبر تأييد بطرس غالي رئيس الوزراء لمشروع تمديد امتياز قناة السويس لمدة أربعين عاماً(بعد انتهائه عام 1968)مقابل مبلغٍ مالى تدفعه الشركة الفرنسية صاحبة الامتياز إلى الحكومة المصرية مع نسبة من أرباح القناة..قام الحزب الوطني ورئيسه وقتها محمد فريد(توفى 1919م عن 51 عاما)والذي كان قد حصل على نسخةٍ من المشروع ..قام بحملةٍ لحشد المصريين ضد القانون..أنتبهت الحركة الوطنية كلها لما يحدث فى الخفاء وطالبت بعرض مشروع القانون على الجمعية العمومية (البرلمان فيما بعد)..وبالفعل وافق الخديوي عباس حلمي الثاني(حكم من 1892-1914 م بعد أن عزله الاحتلال)على عرض المشروع على الجمعية وتمت مناقشته ورفضته الجمعية وسحبته الحكومة .
لم يجد الشهيد طريقة أخرى للتخلص من خيانات بطرس غالي المتتالية والحفاظ على مقومات الدولة المصرية غير قتله.. وقد كان و فى 10/2/ 1910 أطلق عليه الرصاص وقتله..كان عشق الشهيد لتراب بلاده أكبر وأغلى من حياته التى ضحى بها وبكل ما سعى من أجله فى هذه الحياة وهو شاب ناجح .. ليخلص الوطن ممن آمن بخيانته وكان بالفعل كذلك.
***
لم يكن هذا الحادث فقط وهو ما دلل على عمل بطرس غالى ضد مصلحة بلاده..إذ كان قد وقع كوزير للخارجية سنة 1899م مع انجلترا اتفاق(الحكم الثنائي )على السودان للقضاء على الثورة المهدية .. ويذكر الباحثون أن هذا الاتفاق كان أول خطوة فى تقسيم السودان وتحملت مصر كل نفقات تنفيذ الاتفاق وكان السبب الرئيسى فى افلاس الخزانة المصرية كما قال كرومر فى كتاب(مصر الحديثة)!.
ركزالإتفاق كافة السلطات فى السودان بيد الحاكم الذي يجب أن يكون إنجليزياً ولايعزل إلا بموافقة بريطانيا وعدم سريان التشريعات المصرية في السودان ..هذا الاتفاق أيضا حجم ممتلكات مصر في أوغندا وعدد من الموانئ الموجودة على البحر الأحمر مثل زيلع وبربرة..
ثم نأتى الى جرح المصريين الحى (حادثة دنشواى) 1906م والتى ورأس محكمتها (بطرس غالي)وقضت بالإعدام شنقا على 6من المصريين(لقتلهم انجليزى قام بقتل فلاحة مصرية)وبالأشغال الشاقة لعدد آخر وبالجلد خمسين جلدة على آخرين وتم تنفيذ الأحكام بعد محاكمة استمرت ثلاثة أيام!! وأمام أهل دنشواى.
***
من الغريب وغير المفهوم أن تصدر(مكتبة الاسكندرية)كتابا عن بطرس غالى وعائلته(العائلة البطرسية.. سيرة عائلة قبطية) ويكاد يجمع المصريون كلهم تقريبا على أن دور هذه العائلة السياسى تحوم حوله الشبهات لعلاقتها المريبة بالاحتلال الإنجليزي ثم أمريكا ..بدأً من بطرس غالي رئيس وزراء مصر(1908 - 1910)ومرورا بحفيده بطرس غالي أمين عام الأمم المتحدة (1992-1996)وقبلها وزيردولة للشئون الخارجية شارك في اتفاقية كامب ديفيد(بعد استقالة مسببة من وزيرى الخارجية اسماعيل فهمى وابراهيم كامل)..وحتى يوسف بطرس غالي (وزير المالية من 2004 _ 2011 م)ابن أخو بطرس غالي أمين عام الأمم المتحدة ..والمحكوم عليه غيابياً بالسجن المشدد لمدة 30 عام وهو حاصل على الجنسية الأمريكية.
***
هناك العشرات من الأسروالعائلات القبطية المصرية ذات التاريخ الوطنى الشريف.. كأسرة فخري عبدالنور وويصا واصف وتوفيق اندراوس..ولها دور كبير في الحركة الوطنية ومقاومة الاحتلال..الغرب الاستعمارى قال وقتها إن التعصب الإسلامي هو الذى دعا المصريين إلى قتل بطرس باشا غالى !!؟؟وأن وضع الأقباط في مصر سيء للغاية .. (قبطية) بطرس غالي لم تكن سبب فى قتله إطلاقا ولم يحكى المصريون فيما بينهم هكذا حكاية.. بل الخيانة..ووطنية الشهيد الورداني وإخلاصه..هي التي أدت إلى قتله .
هل علينا هنا أن نتذكر القبطي(عريان يوسف سعد)؟؟ الذى حاول قتل(يوسف وهبة باشا)عندما وضعه الإنجليز على رأس الوزارة المصرية في 1919 م رغم إجماع الأمة(مسلمين وأقباط)على مقاطعة مناصب الوزارة ومقاطعة لجنة ملنر وقتها .. وحكم على عريان يوسف سعد بالأشغال الشاقة لمدة عشرة أعوام ..وقال إنه أراد كمسيحي أن يغتال عميل للاستعمار..حتى لا يدان المسلمين ويكون الباعث( ديني)وتتشوه الحركة الوطنية.
أقرؤا ما كتبه الأستاذ نجيب المنقبادي المحامي القبطي الشهيربعنوان(رسالة إلى العالم ) ونشرتها جريدة اللواء 9 /3/ 1910)أريد من صميم فؤادي أن أبدد التهم التي أشاعها الإنجليز في العالم ضد الورداني..أنا أعرف الورداني شخصيا وهو فتى شديد الذكاء كثير المعارف ملأت صدره الوطنية المتحمسة بعد أن ضاق صدرنا جميعا من السياسة الإنجليزية التي كان بطرس غالي ينفذها باجتهاد).أيضا نفى المحامي القبطي الشهير(مرقص فهمي) تهمة التعصب عن الشهيد الوردانى .
***
قبض على الورداني واعترف بكل شجاعة وقوة بما فعله..وحوكم أمام محكمة جنايات مصر المشكلة برئاسة انجليزى وعضوية 2 من المصريين وكان النائب العام وقتها عبدالخالق ثروت(صاحب الميدان الشهير فى قلب القاهرة !؟) .. وتولى الدفاع عنه أحمد لطفي السيد وإبراهيم الهلباوي الذى قال فى مرافعته:إن هناك حقيقة عرفها قضاتك وشهد بها الناس وهي أنك لست مجرما سفاك للدماء.. ولا فوضويا من مبادئه الفتك ببني جنسه.. ولا متعصبا دينيا خلته كراهية من يدين بغير دينه..إنما أنت مغرم ببلدك ..هائم بوطنك.
لكن عبد الخالق باشا ثروت طالب بإعدامه ويوم 18 مايو1910م أصدرت محكمة الجنايات حكمها بالإعدام وأرسل الحكم إلى المفتي الشيخ (بكري الصدفي)لإقراره لكنه رفض !! فى سابقة لم تحدث من قبل أن يعترض المفتي على حكم محكمة الجنايات..إلا أن المحكمة لم تأخذ برأيه(عزل بعدها عام 1914 وتوفى عام 1919م)ورفع المحامون طعنا أمام محكمة النقض والإبرام فقضت برفض الطعن وتأييد حكم الإعدام.
ولم يمت الشهيد الوردانى إلا فى الكتب..وغاب وأختفى كثيرون محتهم(أستيكة)الأيام وعوامل التعرية التاريخية.
لكن علينا أن نتذكر دائما أن الغناء الشعبى نبت طبيعى من طينة الوطن وناس الوطن..وكان قديما على شاكلة (قولوا لعين الشمس ..).