السبت 02 نوفمبر 2024
توقيت مصر 18:37 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

في الصحافة والحياة..

الحقيقة الغائبة في الحرب الأذرية الأرمينية

عندما ذهبت خلال مايو ويونيه عام 1992 إلى قره باع العليا أو مرتفعات ناجورنو قره باغ التي تجري فيها الحرب حاليا بين أذربيجان وأرمينيا، كانت قد سقطت كلها في متناول الأرمينيين ما عدا "أغدام" التي تعني بالعربية البيت الأبيض، وقد أمكن لي دخولها من العاصمة الأذرية باكو التي وصلتها عبر السفر من طشقند عاصمة أوزبكستان إلى ألما آتا العاصمة السابقة لكازكستان. كانت كل هذه الجمهوريات بما فيها أذربيجان وأرمينيا حديثة الاستقلال عقب تفكك الاتحاد السوفييتي، ومن ثم لم أحصل على تأشيرة دخول إليهما، لعدم وجود تمثيل قنصلي للدولتين حتى ذلك الحين.
في مقهى لطيف بمدينة باكو يطل على بحر قزوين تناولت الشاي المحلى بحلوى الملبس بسبب اختفاء السكر، وكان معي مرافق أذري وآخر أوزبكي يجيد العربية عينته لي المشيخة الدينية في طشقند وسافر معي من هناك.
كانت آثار الحرب الدائرة في ناجورنو قره باغ، وتكتب أحيانا كارا باغ واضحة على شوارع باكو، حيث تنتشر نقاط التفتيش التي تعرضت لي أكثر من مرة، وكانت تتركني بمجرد مطالعة جواز سفري دون سؤال عن الصيغة القانونية لوجودي، فقد كانوا خارجين لتوهم من الحقبة السوفياتية ويتطلعون إلى حقبة إسلامية وبالأخص عربية.
في هذا المقهى بحثنا سبل السفر إلى ناجورنو قره باغ وكانت لدى المرافق الأذري العلاقات والإتصالات التي تتيح ذلك، وعندما اقترحت السفر أيضا إلى يريفان عاصمة أرمينيا لكي أكتب بتوازن وموضوعية عما يحدث، أجاباني بإستحالة ذلك، فالبلدان في حالة  حرب، والانتقال بينهما لن يكون متاحا حتى ولو عن طريق دولة ثالثة، وكنت قد اقترحت أن تكون تلك الدولة هي جورجيا.
في أذربيجان تجد نفسك داخل جزء من العالم التركي، أكثر من الشعور أنك داخل جزء من العالم الشيعي، رغم أنها ذات أغلبية شيعية . يتكلمون اللغة التركية الأصلية التي تحوي الكثير من الكلمات التي نتكلمها في لغتنا العربية، مثل "الدكان" وهي البقالة التي نبتاع منها بعض السلع.
إحساسهم بالانتماء التركي عميق جدا، حتى أن المرشح للرئاسة الأذرية وقتها، قال لي إنهم شعب واحد يعيش في دولتين. على العكس لا تشعر بأي انتماء لإيران حتى لو شيعي، فيما عدا النسوة الجميلات القادمات من الأرض القريبة، أذربيجان الإيرانية، وقد خلعن الشادور بمجرد دخولهن أذربيجان وتركن شعورهن وجمالهن اللافت لغزل بحر قزوين العفيف.
بسهولة سيطرت أرمينيا في ذلك الحين على مرتفعات ناجورنو قره باغ التي تمثل جزءا كبيرا من مساحة أذربيجان، يكفي أن مدينة شوشا الاستراتيجية بدأ الهجوم عليها في الصباح وسقطت في عصر ذلك اليوم.
ناجورنو قرباغ ذات أغلبية أرمينية ومن هنا نفهم التطهير العرقي الذي جرى فيها، والذي لم يشمل فقط إجبار الأذريين على الخروج من بيوتهم وإنما تدمير المعالم الثقافية والتاريخية التي تذكر بالعرقية التركية.
والحق أن أسلوب التطهير العرقي واستهداف المدنيين وحدوث مجازر بشعة هو أسلوب متبادل بين الأذريين والأرمينيين منذ بداية حروبهم أوائل القرن الماضي، وقد كان هناك أرمن يقنطون باكو واجهوا المصير نفسه.
إنها حرب عرقية وليست دينية وهذا يناقض تصوري لها عندما حضرتها عام 1992 فالصورة لم تكن واضحة لي تماما حينها، والسبب أنني أخذت جانبا من الحرب متمثلا في أذربيجان ولم أذهب إلى أرمينيا وذلك قصور خطير في العمل الصحفي يفقده حتى دون قصد الحياد والتوازن والموضوعية ويغيب عنه الحقائق العارية، أي التي لا تتأثر برأي أو عواطف أو انتماء، وتلك أمور نقص حرصت على تجنبها فيما بعد.
الحرب الحالية تؤكد ذلك، فأذربيجان تمكنت من شنها بفضل السلاح الذي تحصل عليه أساسا من إسرائيل مقابل إمدادها بحوالي 40% من احتياجات النفط مع أن أرمينيا احتفلت بافتتاح سفارة في تل أبيب في سبتمبر الماضي، وكانت إسرائيل سباقة في الاعتراف بها 1992.
انتصارات الأذريين في ناجورنو قره باغ تقف وراءها طائرات الكاميكاز بدون طيار الإسرائيلية التي حققت نجاحا في ضرب القوات الأرمينية وبواسطتها استعاد الأذريون عدة مدن وقرى.
يضاف إلى ذلك أنظمة الصواريخ الإسرائيلية والاتصالات المتقدمة. الايديولوجية الدينية بعيدة عن هذه الحرب، خصوصا أن تركيا تقدم مساعدات عسكرية أيضا للجانب الأذري الذي تنظر إليه كشقيق. وهنا تبرز عقدة القصة السياسية. دولتان معاديتان منافستان تدعمان دولة ثالثة في حرب ستؤثر على الجغرافيا السياسية للقوقاز.
السياسة قبل الدين في حرب القوقاز. إسرائيل تدعم دولة قد تكون يوما موقعا استراتيجيا في حرب محتملة ضد إيران، في حين تتطلع تركيا لمنطقة نفوذ تمتد من بحر قزوين إلى البحر الأسود تحي بها العالم التركي القديم، في المقابل تدعم إيران أرمينيا التي تشتري نفطها، وبالمرة تتصدى لأحلام الأذريين بأذربيجان الكبرى التي تشمل أذربيجان الإيرانية.