الجمعة، 13-12-2019
01:48 م
يعقوب عبد الرحمن
وبينما تتوالى الهجماتُ على الإسلام من كُلِّ حَدَبٍ وصَوْبٍ، من الشَّرق والغرب، ومن أنْصاف المثقَّفين أنفسِهم في العالم الإسلامي، يُنادي الغربُ المسيحي بالعودةِ إلى الأصول المسيحية؛ لإصلاح مجتمعاتهم التي دمرتها الرأسمالية المتوحشة، ووسائل الإعلام المنفلتة التي تُشجِّع أساليبَ الحياة التي تبحث عن ضُرُوب المُتعة الحسِّية ولا تحكمها أيُّ ضوابطَ أخلاقيةٍ. ولعلَّ هذا الكتابَ هو خيرُ مثالٍ لهذا التَّوجُّه الذي تزداد فيه نبرةُ المناداة بالعودة إلى القيم الدينية يومًا بعد يوم في الغرب. ونحن نسير خلفهم مُغمضِي العيون بلا رَويِّةٍ، منبهرين بأنماط حياتهم، محاكين ثقافاتهم في أسوأ وجوهها، تاركين الجوانب المضيئة التي أفرزها الفكر الإنساني المتحضر.
يرى مؤلف "خيار بنديكت": أن الغربَ المُنعزلَ عن جُذوره المسيحية يتهاوى ليقعَ في عصر ظلام جديد مرةً أُخرى.
الكتاب هو أكثرُ الكُتب مبيعًا في استقصاء جريدة نيويورك تايمز. ويقول عنها ديفيد بروك: إنها أكثر الكُتب إثارةً للنقاش والجدل بالفعل، وأكثر الكُتب الدينية أهميةً في هذا العقد بأكمله. فماذا يقول المؤلف نفسه، وماذا يقول بعض المثقفين ورجال الدين الغربيون عن هذا الكتاب؟
يدعو مؤلف الكتاب ذائعُ الصِّيت الذي حقَّق أكبر المبيعات وأثار أكبرَ قدرٍ من الجدل، وكاتب العمود المحافظ في صحيفة نيويورك تايمز رود دريهر، في رؤية جوهرية جديدة لمستقبل المسيحية- المسيحيين الأمريكيين إلى الاستعداد لعصر الظلام القادم من خلال تبنِّي أساليبِ الحياة المسيحية القديمة.
يدعو دريهر المسيحيين التقليديين في "خيار بنديكت"، إلى التعلُّم من مثال القديس بنديكت النورسي، وهو راهبٌ من القرن السادس عشر تحوَّل عن الفوضى وانحطاط الإمبراطورية الرومانية المنهارة، ووجد طريقةً جديدةً للعيش بعيدًا عن الثقة في المجتمع المحيط به. نجح رهبان القديس بنديكت طوال خمسة قرون صعبة في عصور الظلام، في الحفاظ على العقيدة قيد الحياة، وقاموا بتعبيد الطريق نحو إعادة إحياء الحضارة. ما الذي يتعيّن على المسيحيين العاديين في القرن الحادي والعشرين - الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس - أن يتعلموه من تعاليم وعِبر من هذا الأب الروحي العظيم؟ يجب عليهم قراءة شواهد العصر، والتخلِّي عن الأمل في حلٍّ سياسي لمشاكل حضارتنا، وتحويل انتباههم تجاه خَلْق مراكز روحية مرنة قادرة على البقاء على قيد الحياة في قلب العاصفة القادمة. يجب عليهم- بغض النظر عن معتقداتهم المسيحية، الاستفادة من أسرار حكمة رهبان القديس بنديكت لتشييد أركان الكنيسة المحلية، وإنشاء مدارس ثقافة مناهضة تقوم على المعتقدات التقليدية، وإعادة بناء الحياة الأُسرية، وتدعيم الروابط المجتمعية، وتطوير استراتيجيات البقاء على قيد الحياة بالنسبة للأطباء والمعلمين وغيرهم على الخطوط الأمامية ضد الظلم والاضطهاد.
فقد أمكن على حدِّ قوله: إفراغ الكنائس الأمريكية من الداخل، برحيل الشباب منها، وعن طريق المسيحية الزائفة المبتذلة. ومن الخارج، فإنها مُحاصرة بتحديات تواجه الحريات الدينية في ثقافة علمانية متسارعة. ربما منحت عملية إبقاء هيلاري كلينتون خارج البيت الأبيض مهلة قصيرة من هجوم الدولة عليها، ولكنها لن تُوقِف انزلاقَ العالم الغربي بأَسره نحو التدهور والانحلال.
يقول رود دريهر: "إن التقدُّم في هذا الطريق إلى الأمام هو في الواقع طريقُ العودة - وصولاً إلى عصر القديس بنديكت النورسي. تراجع هذا الراهب الذي عاش في القرن السادس، والذي رُوعتّه الفوضى الأخلاقية التي أعقبت سقوط روما، إلى الحياة في الأحراش، وخلق طريقة حياة جديدة للمسيحيين. قام القديس ببناء مجتمعات راسخة على أساسٍ من مبادئ النظام، والحفاوة وحُسن الضيافة، والاستقرار، والصلاة. كانت المراكز الروحية التي قام بتشييدها – على حدِّ قول المؤلف - منارات قوية طوال العصور المظلمة، ولم تُنقذ هذه المراكز الروحية العقيدة المسيحية فحسب، بل والحضارة الغربية بأَسرها" على حدِّ قوله.
ويُضيف قائلاً: "يسود اليوم، شكلٌ جديدٌ من أشكال الهمجية. لا يُدرك الكثيرُ من المؤمنين ذلك ويغطون في نومٍ عميقٍ، كما أنَّ كنائسَهم أضعفُ بكثير من أنْ تقاومَ هذه الموجة. لا تُقدم السياسة أيَّ مساعدة تُذكر في هذه الأزمة الروحية. ما نحتاج إليه في الوقت الحالي هو خيارُ بنديكت، وهي: استراتيجية تعتمد على سُلطة الكتاب المُقدَّس وعلى حِكمة الكنيسة القديمة. ويتمثَّل الهدف في: احتضان الاغتراب عن الثقافة السائدة، وبناء ثقافة مضادة تتسم بالمرونة".
إن كتاب خيار بنديكت كما يشير المؤلف هو إعلانٌ صريحٌ، وصرخة مدوِّية للاحتشاد للمسيحيين الذين إذا لم يتم التغلب عليهم، يجب عليهم أن يتعلموا كيف يُقاتلون في ساحات الحرب الثقافية، وبطريقة لم يشهدها الغربُ منذ ألف وخمسمائة عام. إن كل المسيحيين – البروتستانت، والكاثوليك، والأرثوذكس - هم فقط من يستطيعون قراءة دلائل العصور. لن يستطيع التفاؤل المُضلِّلُ ولا اليأسُ القاتلُ أن يَفي بالمطلوب. يمكن فقط للإيمان، والأمل، والمحبة، المُتجسدة في كنيسة مَتجدِّدة، أن تُناصر المؤمنين في عصر الظلام الذي يغمرنا بطُوفانه في هذه الأيام، لبناء سُفن قوية لرحلة طويلة تعبر بنا بحار الليالي الدامسة".
وكما يقول أحدُ النُّقَّادِ: "يبدو أنه يجب أن يكون هناك كتاب آخر جديد. بل يبدو وكأن هناك عدد من الإجابات الجيدة المحتملة المتعدِّدة بشأن تراجع وانهيار الغرب. يُمكنك اختيار القديس المفضَّل لديك ومعرفة ما فعله أو ما فعلتها كاستجابة للفساد المحتوم الذي كان يتحتَّم عليه أو عليها مواجهته في زمانه أو زمانها، ويمكنك التقدُّم من هناك، مسترشدًا بالرُّوحِ القُدُسِ؛ لتقوم َبتحديد استجابتك الخاصة".
وليس هذا أمرًا "جوهريًا" جديدًا بكل تأكيد، لكنَّ عناصر في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية لم تتخلَّى أبدًا عن المعتقدات الروحانية في حياة أبناء الكنيسة السياسية. كان هناك (دائمًا) اتصالٌ رُوحيٌّ قويٌّ بالمجتمعات المسيحية الأولى وسوف يظلُّ ذلك الاتصالُ الرُّوحِيُّ هناك دائمًا. إنه ليس مجردَ تشبُّثٍ عالمي على مستوى كافة الأمم".
يرى المؤلف أنَّ نور الإيمان المسيحي يُضيء في جميع أنحاء الغرب، ومن يغضُّ النظر عنها عامدًا وبعناد فهو الوحيد الذي يرفض رؤية ذلك النور. تُعاني الكنائس الأمريكية من تحديات حصار الحرية الدينية غير المسئولة لها من خارجها في ثقافة تُسارِع من وتيرة العلمنة. لقد فشلت الحلول السياسية، كما يشير نجاحُ قرارِ زواج المثليين وتدمير الحزب الجمهوري لذاته، ولم يكن مستقبل الحرية الدينية موضع شكٍّ كبيرٍ. فالفوضى تَحلُّ على العالم. يتهاوى الغرب المنعزل عن جذوره المسيحية ليقعَ في عصر ظلام جديد مرةً أخرى. الأنباء السيئةُ هي أنَّ جذور التدهور الديني أعمقُ مِمَّا يدركه معظم الأميركيين. أمَّا الأنباءُ السارَّةُ فهي أن برنامج عمل الاستجابة المسيحية التي خضعت لاختبار الزمن لهذا الانخفاض لا يزال قديمًا.
لقد حانَ وقتُ الاختبار! فمهما كان الظلام الذي يُغطِّي أرجاءَ الغربِ، فإن أضواء العقيدة المسيحية لا يجب أن تخبو. لن يكون الأمر يسيرًا على الإطلاق ولكنَّ المسيحيين الذين يتحلُّون بالشجاعة الكافية لمواجهة التدهور الديني ورفض الحلول العصرية والعودة إلى التقاليد القديمة سيجدون القوة، ليس فقط للبقاء على قيد الحياة، ولكنْ لكي ينجحوا وينثروا البهجة في العالم غربي ما بعد المسيحية. يوضح خيار بنديكت للمؤمنين كيف يقومون بخلق المُقاومة والتحلِّي بالمُرونة وبثقة وحماسة الكنيسة في أيامها الأولى. يقف المسيحيون في مفترق الطريق وهم يواجهون مأزق الاختيار، بينما مصيرُ العقيدة المسيحية بأَسرها موضوعة على المحك. يُوضِّح لنا دريهر في هذا التحدي القوي لحالة الرِّضا عن المسيحية المعاصرة، وهو مواجهة السؤال: لماذا لم ينجح كل أولئك الذين يرتادون جميع الكنائس ممن فشلوا في تبني اختيار بنديكت؟.
ويقول تشارلز ج. تشابت، رئيس أساقفة فيلادلفيا للرهبنة الكَبّوشية عن الكتاب:
"كتابٌ رائعٌ، مثيرٌ في محتواه، ثاقبُ الرأي، يتَّسم بالحيوية، ومُمتِعٌ في أسلوبه. تكمن قوة "خيار بنديكت"، ليس فقط في تحليله للمعضلات التي تواجه ثقافتنا المتنامية، ولكنْ في إبرازها للخطوط العريضة للأساليب العملية التي يُمكن من خلالها للمسيحيين البقاء على قيد الحياة والازدهار في أمريكا مختلفة إلى حدٍّ كبير. يُمثل هذا الكتاب أداة لا تقدر بثمن لفهم العصر الذي نعيش فيه، والعمل كمؤمنين مخلصين لإيمانهم".
أما روسل مور، رئيس لجنة الأخلاقيات والحرية الدينية التابعة للتجمع المعمداني الجنوبي فيقول:
"أنا مُبّشرٌ أكثر منِّي راهبٌ في دير، لكنني أعتقدُ أنَّ كُلَّ مسيحي يجب أن يقرأَ هذا الكتاب. رود دريهر متألقٌ، ورائعٌ، وذو بصيرةٍ وحكمةٍ. حتى لو كنت لا تتفق مع كل شيء جاء في هذا الكتاب، فإن هناك تحذيراتٍ يُوردها المؤلف يجب الانتباه لها، وعادات يذكرها يجب أن تتم ممارستها".
وفي كتاب آخر يدعو مؤلف غربي أمريكي آخر (وهو كتاب لماذا فشلت الليبرالية)، بالعودة إلى قيم الدين المسيحي فيقول:
إن المدافعين عن الليبرالية يشيرون في كثير من الأحيان إلى تحرير المرأة من ظروف عدم المساواة كمثال مهم على نجاح الليبرالية، واعتبار أيِّ نقد يُوجَّه لليبرالية، وكأنه اقتراح لإعادة المرأة إلى عبودية حِقبة ما قبل الليبرالية. ومع ذلك، كان الإنجاز العملي الأساسي لتحرير المرأة هو نقل العديد منهن إلى القوى العاملة في رأسمالية السوق.
ومن المثير للدَّهشةِ أن يدعو المؤلِّفُ إلى العودة للقِيم المسيحية والقيم الدينية للتربية، وأنَّ تخلِّي الليبرالية عن القيم الدينية والأخلاق تحت مزاعم التحررية قد أدَّى إلى تقويضٍ وهدم بُنيان الأُسرة والمجتمع بأكمله، وبالتَّالي انهيار الليبرالية.
ويقول: إن العلامة الأعظم الدالة على تحرير المرأة هي تحررها المتزايد من تكوينها البيولوجي، التي تحررها لخدمة قوة مختلفة وهمية ومجهولة وهي "المؤسسات" الأمريكية الضخمة والمشاركة في نظام اقتصادي يلغي فعليًا أيَّ حرية سياسية حقيقية. ويوضح كيف اتخذت الدعوة إلى تحرير المرأة منحنى بعيدًا عن طبيعتها البيولوجية، وإلى تفشِّى العلاقات غير الشرعية وإلى هدم كِيان الأُسرة. لم يؤدِّ انهيار الأُسرة، والمجتمع، والأنماط والمؤسسات الدينية، وخاصة بين أولئك الذين يستفيدون بدرجة أقل من تقدم الليبرالية، إلى سعي الساخطين على الليبرالية إلى استعادة تلك المعايير.
فلماذا الحرب على الإسلام إذن؟
بقلم: رود دريهر..
ترجمة وتقديم: يعقوب عبد الرحمن