الثلاثاء 19 مارس 2024
توقيت مصر 05:07 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

المرأة (الأنثى /الإنسان)..المسيري يتحدث

طبيعى أن تكون للمرأة مساحة كبيرة من الاهتمام الفكرى والفلسفى لأستاذى وأستاذ كل الأجيال د/عبد الوهاب المسيرى ..فهى بالفعل وكما هو مشهور في الأدبيات الإسلامية نصف المجتمع ..وهى التى تربى النصف الأخر_ بدرجة أو أخرى_ من درجات التربية ..وهى مع كل ذلك الأم والأخت والزوجة والقريبة والزميلة ..وقد كانت علاقة الدكتور عبد الوهاب بالمرأة في كل هذه الحالات علاقة جميلة أخاذة بالغة التميز وقد حكى في مذكراته        ( البذور والجذور والثمار)كل شىء عن كل هذه الروابط الأسرية وأمتدادها العائلى والإجتماعى.. وأغلب تلاميذه وأصدقاؤه شهود أحياء على روعة ورقى وجمال ما كان بينه وبين زوجته الراحلة د/هدى حجازى ..
****
أذكر أنا شخصيا أنى قد زرته ذات مساء وكان يعانى من مرض(الحزام النارى) المعروف بألمه الحارق .. وأحببت ألا تطول الزيارة فهممت بالانصراف المبكر فطلب منى البقاء قليلا ..فقلت لنفسى لعله يستأنس بوجودى كطبيب .. وأحسست هنا بالواجب المهنى في أن أبقى فجلست..وأحيانا نوجد لأنفسنا مبررات تبدو منطقية لأمور لا علاقة لها بالموضوع كما يقول محمود درويش(الموضوع خارج أرض الموضوع).
بقائي وانصرافي ليس مهما هنا في الحكاية ..المهم هنا هو أن د/ هدى دخلت بالشاى والكيك وتحدثت معى ومعه قليلا وهمت بالانصراف.. فنادها فسألته عما يريد فقال لها :(خلليكى ..وجودك جنبى بيضيع الألم)فجلست في تلقائيه عاديه للغاية وهى تنظر إليه كأنه طفلها الكبير بكل سمو ووفاء ونبل وحب ..لا تسأل عنى وقتها.. فقد تجمدت في مكانى.. وإذا بالاثنين يبدآن حديثهما بشغف وإنصات ..ولأن الأستاذ _أي أستاذ_ لا يكون أستاذا إلا حين يشرق على تلاميذه بكل عطاءاته الأخلاقية والنفسية والتربوية والاجتماعية ليسكب في وعيهم تجربته الكاملة في الحياة ..إذا به يشركني معهما في الحديث.
رحم الله الدكتور عبد الوهاب الذى عاش كل حياته بكل أفكاره والدكتورة هدى الكريمة رفيقة دربة وأفكاره وأسكنهما الفردوس الأعلى..ولعلنا نتعزى في الحياة بصحبة وصداقه تلاميذه الكرام د/مازن النجار د/سعيد الحسن الأستاذة /لمياء جوده د/ جيهان فاروق..وكلهم أعلام وعلامات كبيرة في محيطهم و في حياة كل من عملوا معهم  وأتصلوا بهم .
****
د. عبد الوهاب له كتاب من أهم الكتب التي تناولت المرأة (قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى) الكتاب من 60 صفحة ويمكن تحميله مجانا.. وجملة(التمركز حول الأنثى)من الجمل التي نحتها الدكتور المسيري كغيرها من الجمل التي تعد من أدق التعبيرات والتوصيفات الفكرية والفلسفية في المكتبة العربية مثل النموذج الإدراكي والتفسيرى والمفهوم الكامن..العلمانية الجزئية والشاملة.. المجتمع التراحمى و التعاقدى ..والكثير من التوصيفات بالغة الدقة بليغة اللفظ والمعنى.
يميز الدكتور المسيري في كتابه بين حركة تحرير المرأة وحركة التمركز حول الأنثى ويرى أن الأولى تنطلق من مفهوم (الإنسانية) المشتركة ..بينما الثانية تنطلق من فكرة الصراع المستمر ومن فكرة مادية الإنسان..متحررة من التاريخ بلا ثوابت ويقينيات ومفاهيم صلبة ..بل منفتحة على التجريب المستمر(إنجاب الرجل مثلا) رافضة لمرجعية التاريخ الإنساني التى تقرر الصفات والأدوار والمراكز( الزوج والزوجة والأب والأم والأخ والأخت..)إذ ترى فيه ظلما على الأنثى.
****
ثقافة( التمركز حول الأنثى) هى فى الأساس وليد خالص للثقافة الغربية التي تعامل الإنسان كمادة يمكن إعادة صياغتها على أى شكل.. مرجعيته الوحيدة هو التغير والتجريب والصيرورة _كان في حال ثم صار إلى حال أخر _ لذا تدافع هذه الثقافة كما يقول د.عبد الوهاب عن الشواذ جنسيا وحقوق الحيوانات والعراة والمخدرات وفقدان الوعي وحق الانتحار وعن كل ما يطرأ وما لا يطرأ على البال الطبيعى العادى.
وقد تابعنا مؤخرا بعض الأحداث التى تعكس هذه المفاهيم.. مع إن الدنيا قصيرة ولا تستاهل كل هذا التعقيد .. مجموعة أيام وليالى نحاول ما أستطعنا أن نعيها بسلام وفطرة وصفاء..ما يستطيع العقل أن يستقل بإدراكه(العلم والمعرفة)ينطلق نحوه..وما لا يستطيع أن يستقل بإدراكه(القدر والغيب) يقاربه إيمانا وتسليما ..هذا الإيمان وهذا التسليم هو الذى يمنحنا شعورا بالأمان والسكينة الذى لا يمكن تعويضهما بأي شيء أخر في الوجود.. وكما قال الشاعر الكبير محمد إقبال وشدت السيدة أم كلثوم(إذا الإيمان ضاع فلا أمان ..)
كم يساوى هذا المعنى أمام كلام جنائزى عبثى استبدت به سوداوية مهلكة يقول(ذرات اصطفت عرضا)..فأنتجت وجودا سيذهب عدما..
كل هذا الإبداع في الوجود وهذه العناية بالوجود وتقول اصطفت عرضا.. كل هذه الحكمة وكل هذا العلم والتدبير وتقول سيذهب عدما!؟..إنه الجنون البشرى حين يفلت من عقاله.
****
وعودة الى موضوعنا.. أوضح د/ عبد الوهاب فى الفرق بين الحركتين(التحرير والتمركز)..أن حركة تحرير المرأة تدافع عن حقوق المرأة في إطار(الإنسانية)المشتركة وانتماء الإنسان لمجتمعه وحضارته باستقلال عن المادة.. وتعامل المرأة ككائن اجتماعي(إنسان)ينشد العدالة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.. كما أنها تدرك الفوارق بين الجنسين.. وتسعى إلى عدم تحول هذه الفوارق إلى مبررات ظلم اجتماعي .
في حين أن حركة (التمركز حول الأنثى) تنكر وجود هذه الفوارق أصلا كما تقدم خطابا يوحي بأنه لا توجد(إنسانية) مشتركة بين الرجل والمرأة حيث المرأة متمركزة حول ذاتها تشير إلى ذاتها مكتفية بذاتها ودائما تود اكتشاف ذاتها وتحقيقها خارج أي إطار اجتماعي..وهي في حالة صراع كوني أزلي مع الرجل المتمركز حول ذاته!.

****
وفى النهاية ستكتشف أن القضية هنا ليست دفاعا عن حقوق اجتماعية وسياسية وليست طلبا للعدالة وإنما تكريسا لفكرة(الصراع)بين جنسين متمركزين على ذاتهم وهى فكرة موجوده كما أشار د.عبد الوهاب في الأدبيات الصهيونية.. ولعل تصايح وتزايد الحديث مؤخرا عن مصطلح ومفهوم( التحرش) يعكس شىء من هذا الصراع ممكن يكون بالفعل حسن النية لكنه لا يبصر الواقع ..فنظرة سريعة لمعظم أفلام الأبيض والأسود القديمة ستجدها مليئة بالتحرش والمعاكسات اللفظية والإشارية..وكذلك معظم أفلام السبعينيات بل وأغاني كثير من المطربين والمطربات مليئة بألوان وأشكال التحرش..معاكسات الشوارع وبنت الجيران موضوع قديم يشير إلى انحطاط درجة المعرفة السوية وتجده جزء من حكايات لا تستقيم  الحكاية بغير حكيها ..وكل هذا بالطبع كان يتم في إطار البعد والتخفف من أخلاقيات النبل والتعفف الجميل التى يشاورعليها الدين بفكره ومثله العليا في مسيرة الحياة اليومية..
لكن الموضوع اكتسب مؤخرا كما ذكرت حالة تصارعيه صراعا صريعا مصروعا.. بين المتحرش البذيء الدنيء الفاسد الشرس(الإيجابي) والأخر الذى قرر الإعلاء والمبالغة في ثقافة الجسد (السلبى).
ولأن الموضوع قديم جدا بالفعل وليس جديدا.. دعونا نأخذ المتحرش الكذاب بن الكذاب هذا لباب الدار كما يقول المثل الشعبى..ونركز قليلا على المرأة(الإنسان)مكشوفة العقل والروح والنفس.. والباقي(الجسد ومظاهر الشياكة)نحاول وضعة في الحيز المناسب له..الظاهرة لن تختفى سريعا وبسهولة لأنها بالفعل قديمة وعميقة في التكوين الاجتماعي وتحتاج إلى مقاربة اجتماعية ودينية واسعة ..ذاك أن المتحرش هذا فى أعمق أعماق ظلمات نفسه كائن دنئ متلصص صفيق يحتاج الى  عشرات الدروس فى مجالات تحليل الهلوسة واندفاع الشهوات الباطنة.
****
الدعوة إلى نبذ التاريخ الإنساني بين المرأة والرجل والبدء بالتجريب المستمر وإعادة صياغة كل شيء في حركات التمركز حول الأنثى: التاريخ واللغة والرموز بل الطبيعة البشرية ذاتها كما تحققت عبر التاريخ وكما تبدت في مؤسسات تاريخية..كارثة كبيرة تحيق بالإنسان .. ويرى د. عبد الوهاب أن هذا الحديث لا يعتبر برنامجا إصلاحيا وإنما سطحيا ولا يحل أي مشكلة.. كل ما في الأمر أنه مجرد نظرة واحدية متمركزة على الأنثى تريد التشديد على استقلال المرأة عن الرجل وعن أي سياق اجتماعي تاريخي.. وهو الأمر الذي وصل في تطرفه إلى تمجيد(السحاق) حيث المرأة لا تحتاج إلى الرجل مستبعدة هذا الشريك في الإنسانية المشتركة ..د.المسيري يرى في كل ذلك أن الأجدى والأصلح هو البدء من (حقوق الأسرة)كلها فالأسرة هى المركز الحيوى فى المجتمع.. ثم الانطلاق منها لحقوق الأفراد المنتمين لهذه الأسرة.