الجمعة 19 أبريل 2024
توقيت مصر 05:59 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

في ذكرى ميلاده ووفاته

الشيخ «محمد رفعت».. رفض فلوس الملك وثروته مصحف

الشيخ «محمد رفعت»
على مدار عقود طويلة، ارتبطت قلوب المصريين قبل أسماعهم خلال شهر رمضان بصوت الشيخ الراحل محمد رفعت, حتى إنه أصبح من العلامات المميزة لهذا الشهر الكريم عند عامة المصريين, بصوته شديد التميز الذي ينطلق عبر أثير الإذاعة.. "قيثارة السماء"، "الصوت الملائكي" وغيرهما من ألقاب أطلقت على الشيخ الراحل الذي كان أول من أسس مدرسة للتجويد القرآني في مصر، وأول من تلا القرآن في الإذاعة المصرية. 

كان مولده في درب "الأغاوات" بحى المغربلين بالقاهرة في 9 مايو 1882 (وهو أيضًا يوم وفاته 9 مايو 1950)، وسماه والده الذى كان يعمل مأمورًا بقسم شرطة الخليفة اسما مركبًا هو "محمد رفعت"، بعد عامين من ولادته فقد بصره، ليوجهه والده إلى حفظ القرآن الكريم لما لمسه فيه من نجابة وحلاوة صوت.

ألحقه بكتَاب مسجد فاضل باشا بحي "المغربلين"، فأتم حفظ القرآن وتجويده قبل أن يكمل تسع سنوات، وخلال مراحل حفظه للقرآن، انتبه شيخه لجودة صوته وترتيله للقرآن، ووصلت درجة الثقة فيه، إلى أن أعطاه بعض الليالي ليحييها بصوته العذب في هذه السن الصغيرة، وكان المستمعون ينبهرون بصوته.

وبعد أن أكمل الفتى الخامسة عشر بقليل، توفي والده، فأصبح عائلًا ومسئولاً عن منزل كامل يعيش فيه مع أمه وأخته وخالته، واثنين من الصبية أشقاء له أصغر منه لم يجد أمامه سوى كتاب الله ليعتصم به، ويتكىء عليه ليخرج من الأزمة، فبدأ يقرأ القرآن في المناسبات المختلفة مقابل المال، حتى تم تعيينه قارئًا في مسجد فاضل باشا.

سرعان ما لمع اسم الشيخ وعشقت الملايين صوته، وكذلك الأجانب الذين كانوا يجلسون بالشرفة العلوية الكبيرة بمسجد فاضل باشا للاستماع إلى صوته الذي ملك قلوبهم وعقولهم، وكان سببًا في دخول الكثير منهم إلى الإسلام.

ظل الشيخ رفعت يقرأ القرآن ويرتله في هذا المسجد قرابة الثلاثين عامًا، وفاء منه للمسجد الذى بدأ فيه حفظ كتاب الله، على الرغم من العروض الكثيرة للقراءة في المساجد الكبرى كمسجدي الإمام الحسين والسيدة زينب.


كانت نقطة التحول الأهم في حياته عندما طلب منه المسئولون بالإذاعة المصرية، أن يفتتح المحطة الإذاعية بصوته العذب، لكنه رفض العرض، وبرر ذلك بقوله: "أنا ممكن اقرأ القرآن في الإذاعة، والراديو يكون موجودًا في خمارة، يبقى إزاي الناس هتسمع القرآن، وهما قاعدين بيسكروا ويشربوا الخمر.. أكيد الموضوع حرام".

لكنه ظل في حيرته عدة أيام، سأل خلالها العديد من المشايخ عن رأيهم في الأمر، إلى أن استفتى الشيخ محمد الأحمدي الظواهري، شيخ الأزهر عن جواز ذلك، فأفتى له بالجواز، قائلاً له: "عسى الله أن يهدي بك أحدًا، يعني ممكن وأنت بتقرأ ويسمعك وهو في الخمارة وربنا يهديه".

فكان أن وافق على العرض المقدم له، وافتتح الإذاعة بقوله تعالى من أول سورة الفتح "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا"، وكان ذلك في صباح غرة مايو عام 1934.

وعندما سمعت الإذاعة البريطانية (بي بي سي العربية)، صوته أرسلت إليه وطلبت منه تسجيل القرآن، فرفض ظنًا منه أنه حرام لأنهم غير مسلمين، فاستفتى الإمام المراغي، فشرح له الأمر وأخبره بأنه غير حرام، فسجل لهم سورة مريم.

كانت له طريقته المتفردة في القراءة، فكان يبدأ بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم والبسمله والترتيل بهدوء وتحقيق، وبعدها يعلو صوته فهو خفيض في بدايته، ومن ثم يزداد صعودًا، وكان ينتقل من قراءة إلى قراءة ببراعة وإتقان وبغير تكلف، وكان صوته يحوي مقامات موسيقية مختلفة، إذ يستطيع أن ينتقل من مقام إلى مقام دون أن يشعرك بالاختلاف.

كانت للشيخ رفعت نفس عفيفة زاهدة فى الحياة، فلم يكن طامعًا فى مال ولا لاهثا خلفه، وإنما كان ذا مبدأ ونفس كريمة، فكانت مقولته: "إن سادن القرآن لا يمكن أبدًا أن يهان أو يدان"، عرض عليه سنة 1935 أن يذهب للهند مقابل 15 ألف جنيه مصرى لإحياء شهر رمضان، فاعتذر، فوسّط المهراجا "نظام حيدر آباد" الخارجية المصرية، واعتقد أن الشيخ رفض الزيارة لقلة المبلغ، فضاعف المبلغ 100 جنيه زيادة لكل ليلة من ليالى رمضان، فأصر الشيخ على اعتذاره، وصاح فيهم غاضبًا: "أنا لا أبحث عن المال أبدًا، فإن الدنيا كلها عرض زائل".


الشيخ رفعت كان محبًا للموسيقى، وللاستماع لها، فأحب الاستماع إلى بيتهوفن، وباخ، ودرامز، وموتزارت، وفاجنر، وكان يحتفظ بالعديد من الأوبريتات والسيمفونيات العالمية في مكتبته.

وأقام صالونًا ثقافيًا قصده نخبة من المثقفين والفنانين منهم: أحمد رامى ومحمد التابعى وكامل الشناوى، وكانت تحضر ليلى مراد قبل إسلامها برفقة والدها، وارتبط الشيخ محمد رفعت بصداقة قوية مع صالح عبدالحى وزكريا أحمد ومحمد عبدالوهاب، وفى أيامه الأخيرة كان أقرب أصدقائه الفنان نجيب الريحاني وكان يزوره بصفة دائمة للتخفيف عنه والوجود بجواره.

ويروى عن الشيخ أنه كان رحيمًا رقيقًا ذا مشاعر جياشة عطوفًا على الفقراء والمحتاجين، حتى إنه كان يطمئن على فرسه كل يوم ويوصي بإطعامه، ويروى أنه زار صديقَا له قبيل موته، فقال له صديقه من يرعي فتاتي بعد موتي، فتأثر الشيخ بذلك، وفي اليوم التالي، والشيخ يقرأ القرآن من سورة الضحى حتى وصل إلى قول: "فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ"، فتذكر الفتاة وانهمر في البكاء بحرارة، ثم خصص مبلغًا من المال للفتاة حتى تزوجت.

فى أحد الأيام طلب من أولاده أن يحضروا سائق السيارة له، بعد أذان المغرب، وأمره أن يتوجه لمنطقة في وسط القاهرة، وكان يوجه السائق بالدخول فى الشوارع مرة يمينا وأخرى يسارًا، والسائق متعجب من ذلك، حتى انتهى بهم المطاف أمام سرادق عزاء لسيدة، فدخل السرادق وطلب ابن السيدة وشد عليه في الكلام، قائلا له: "لمَ لم تنفذ وصية والدتك بأن تحضرني للقراءة في عزائها؟ فاعتذر الابن معللاً بـ "أنني خفت من عدم حضورك، ولا أتمكن من توفير أجرك، فوبخه الشيخ محمد رفعت، فقال له: إن والدتك جاءتنى في الرؤيا، وطلبت مني أن أقرأ القرآن في عزائها، واستأذن القراء وظل يقرأ حتى نهاية العزاء" .


ويذكر أن أحد الأثرياء قد دعاه للقراءة يومًا في مناسبة ما، فلما انتهى الشيخ من تلاوته أعطاه الثرى أجر وقته الذى قضاه فى التلاوة، فلم يعرف ما أخذ، فلما رجع الثرى لبيته وجد أنه أخطأ وأعطى الشيخ "مليمًا" بدلاً من "جنيه ذهبي"، فتحرج كثيرًا وهرول للشيخ يعتذر له ويستسمحه أن يأخذ الجنيه الذهبى، فأبى الشيخ قائلاً للرجل: "المليم هذا رزق ربى والحمد لله على ما رزقني"، ورفض أخذ الجنيه.

وذات مرة كان الشيخ رفعت يقرأ القرآن فى سرادق عابدين وبعد أن انتهى من القراءة أمر الملك فاروق بإعطاء الشيخ بعض المال، ولكنه رفض وقال للملك فاروق: أنا أقرأ القرآن الكريم لله تعالى".

ومما ذكرته حفيدته "الحاجة هناء" في أحد الحوارات الصحفية، أن المهراجا الهندى حيدر باشا أباد الذى كان من أشد المعجبين بصوت الشيخ محمد رفعت، عرض عليه أن يحيى ليالى رمضان فى الهند بأى مبلغ يحدده، ولكن جدها رفض حتى وصل المبلغ إلى 100 جنيه فى اليوم وهو مبلغ كبير وقتها، ووسط الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب لإقناعه، حتى إنه قال له: "سأسافر معك"، ولكن الشيخ أصر على موقفه، وفضل إحياء ليالي رمضان في مصر في الإذاعة المصرية مقابل 100 جنيه فى الشهر كاملًا.


أصيب الشيخ في أواخر أيامه بـ"سرطان الحنجرة" وكان يعرف في ذلك الوقت "بالزغطة" وكانت تهاجمه أثناء التلاوة في الإذاعة، وظلت فترة طويلة حتى أنه بكى وامتنع عن الذهاب للإذاعة منذ ذلك اليوم، وكان زاهدًا في الحياة، وكان يبكي كثيرًا بعد مرضه، ليس لمرضه أو لعدم حصوله على المال من القراءة، ولكن كان يبكي لتوقفه عن قراءة القرآن.

بعد مرضه دشن بعض المحبين له، ومنهم الكاتب الصحفى أحمد الصاوي "اكتتابًا عامًا" ليتم جمع مبلغ مالي كبير لعلاجه، وبعد جمع مبلغ خيالي، رفض الشيخ الفكرة، وقال لهم: "من أمرضني قادر على شفائي.. ردوا للناس فلوسهم"، ولأن المبلغ كان كبيرا جدًا، وعدد المتبرعين كثيرا، فإن إعادة الأموال إلى أصحابها كانت صعبة، وتمت عملية إعادة الأموال لمن يعرفونهم، ومن تبرع دون أن يخبر الناس باسمه، تصدقوا بالمال للفقراء، وظل يعانى من سرطان الحنجرة حتى توفاه الله في نفس يوم مولده التاسع من مايو عام 1942. وعندما فتحوا خزينته التي أهداها وخصصها له طلعت باشا حرب في بنك مصر، لم يجدوا فيها سوى روشتة علاجية وساعة ومصحف.