الجمعة 19 أبريل 2024
توقيت مصر 01:16 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

كورونا..أن يحزن (الإنسان) من نفسه وعلى نفسه

أسوأ شعور ممكن أن يمر به إنسان هو هذا الشعور.. أن يحزن من نفسه وعلى نفسه..التعبير قديم وقد يكون مشهور.. لكننا لم نشعر بكل هذا(الوجع الكامن)فيه إلا عندما سمعنا حادثة قرية(شبرا البهو) ..شعورنا به ليس حزنا على هذا القدر من سوء التقدير وسوء الأدب .. بل على هذا القدر من (سوء الحظ )حتى يتناقل الناس في حكاياتهم ما كان من القرية وأهلها جيلا بعد جيل.. للأسف هذا ما اختاروه بإرادتهم لأنفسهم ولأبنائهم .    
كثير من أهل الدين والعقل لهم موقف من كلمة(الحظ)هذه.. ليس رفضا لها ,,ولكن إهمالا وتجاهلا وتقليلا من دورها فى حياة البشر.. تقول الحكاية أن أحد الشباب سأل حكيما عن تفسيره لوصول أحد الناس لهدفه وعجز أخر.. فقال له الحكيم يصل إليه أولا أكثرهما دينا..فقال الشاب :فإن تساويا في الدين؟ قال الحكيم: يصل إليه أكثرهما توفيقا.. قال: فإن تساويا في التوفيق ؟..قال يصل إليه أكثرهما مروءة.. قال: فإن تساويا في المروءة؟    قال: يصل إليه أكثرهما أعوانا.. قال: فإن تساويا في الأعوان؟..قال الحكيم: يصل إليه أكثرهما حظا.            
فى الأغلب لا تتسع حياة إنسان لكل هذه الاحتمالات التى يأتي(الحظ)في أخرها..لأنه سيموت.. فعلا ؟..نعم. سيموت مثل الطبيبة الكريمة التى لم يتخيل أحد من أبناء(القرية) أن نهايته مثل نهايتها.. وأن حياته التى ظن جهلا ثم جهلا ثم جهلا أنه يحميها( الأراء العلمية في الموضوع معروفة ومؤكدة) بعدم السماح لأهلها بدفنها في مقابر أهلها أو أهل زوجها.. حياته هذه ببساطة شديدة ستنتهى إلى ما انتهت إليه إبنة قريته والتى قد تكون تمت له بقرابة ورحم.
إذن دعوني أعتذر عن جملة (سوء الحظ)التى ذكرتها في البداية ..ليس في الأمر حظ سىء أو غير سىء ..إنه اختيارهم ..وإرادتهم الحرة في هذا الاختيار,, فالدين له قول ولم يسع إليه أحد ..والمروءة لها قول ولم يسع إليها أحد..والتوفيق له قول ولم يستحقه أحد.. ثم لم يكن بينهم من ناصح أمين من(أعوان الخير)لا من أقصى القرية ولا من قلبها .. لقد غمسوا أنفسهم فى الوهم الخادع.
****
تمنيت لو كان الدكتور جلال أمين رحمه الله (1935م – 2018م) صاحب الكتاب الشهير(ماذا حدث للمصريين) بيننا هذه الأيام ليصف لنا ما يراه ويسمعه مما يحدث للمصريين هذه الأيام وما يقترن منه بالجائحة التى لم تزل تتحين الفرصة لتنقض على أعناق وأرزاق وأخلاق المصريين فتخرج ما فيهم مما تخرجه الكوارث عادة من الناس ,, والذى وللأسف وكما حذر(مجلس قيادة الشرطة الوطنية البريطانية) من أنه(يمكن أن يخرج أسوأ ما في الإنسانية).                                                                                  قد لا يستغرق الأمر كثيراً حتى تختفي قشرة الأدب الرفيعة لكثير من الناس حينما تكون هناك ملامح تهديد.. ويظهر الجانب المظلم من أنفسنا الداخلية,, هكذا قال أيضا الصحفى النيوزيلندى المعروف(مارك لونجلي).
يقولون أن الإطاحة بالقواعد الأخلاقية الإنسانية لم يبدأ بالأفراد بل بدأ بالدول وحكوماتها.. سمعنا بوريس جونسون رئيس وزراء بريطانيا صاحب مبدأ (مناعة القطيع) التي تعني ترك الملايين تمارس حياتها بشكل طبيعي حتى يصاب أكبر عدد ممكن بالفيروس وتبني أجهزتهم المناعية مقاومة الفيروس وهو ما يعني تعريض الفئات الأضعف في المجتمع (الشيخوخة والأمراض المزمنة) لخطر الموت إذا أصابهم الفيروس.
ليس هذا فقط ..سمعنا الطبيب فرنسي(بول ميرا)رئيس وحدة العناية المركزة في مستشفى كوشين بباريس يقترح(تجربة)لقاح فيروس كورونا(كوفيد  19)في أفريقيا..!! إنهم ليسوا بشرا..هو يراهم مجرد حيوانات ممتازة تصلح للتجربة!!.. الطبيب الذى أعتذر لاحقا بعد الهجوم الذى استحقه كان فى حقيقة الأمر يعبر عن فكر موجود وتوجه قائم فى الحضارة الغربية كلها تجاه(الأخر)غير المنتمى لها دينيا أو عرقيا أو فكريا.. لكنه كان متخفيا فى بحر أكاذيب ما قبل كورونا ,, حتى لو لم يعبر عنه البعض بنفس الوقاحة الفرنسية الشهيرة ..تذكروا وصف د/حسين مؤنس للاستعمار الفرنسى بأنه أقذر استعمار شهدته البشرية.. لا زالوا كما هم ! لم تغيرهم الكارثة .. فقط زال السحر عن الساحر.
لـ(القسوة) اللافحة الغليظة حكاية.. تبدأ من (حقيقة) أن الإنسان أناني ..دائما ما يبحث عن مصلحته الخاصة.. يصارع الآخرين للوصول إليها..حتى أنه قد يبادر بالاعتداء عليهم للحصول على ما يريده ,, إنها حرب الكل ضد الكل ,, كيف يخرج الآخرون ولو بشكل مؤقت عن إنسانيتهم  فيصيروا وحوشا ويمارسوا أنواع القسوة المختلفة على غيرهم من البشر؟ ومن أين تأتيهم كل هذه القسوة..؟ ذهب البعض بعيدا في ذلك وقالوا: ليس هناك وحشا أسوأ من الإنسان..
****
وهذه للأسف حقيقة يعرفها المؤمن وغير المؤمن ..المؤمن يعرف أن(الإنسان)هذا المخلوق المركب مما هو(أزلى)ومما هو(فاسد)..أى الروح التى هى من أمر الله..والطين الذى به ما لا حصر له من أسوأ الغرائز.. هذا المخلوق اذا تٌرك على حاله سيكون في أسفل السافلين .. يئوس/كفور/كنود/ فخور/ظلوم/عجول/هلوع /قنوط /مجادل/طاغي/خصيم..هذه حقيقة من جقائق الحياة والوجود.
ولا حل لنا نحن بنى الإنسان إلا في..(إلا)..تلك الفئة التى استثناها(القرآن العظيم)من كل هذه الصفات باتباعها لمنهج الله ورسالته الخاتمة على خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم..الفئة التى علمت وعرفت أن هذا المخلوق الذى تمم الله به الوجود لحكمة وغاية وعلم يعلمه سبحانه..هو المخلوق الوحيد الذى يستطيع الحركة في سلسلة الخلق العظمى(كما قال الأستاذ العقاد في كتاب الإنسان في القرآن)إما صعودا إلى(الوجود الأشرف)بمصاف الملائكة أو هبوطا إلى(الوجود الأخس) بمستوى ما نراه وما لا نراه من المخلوقات الشريرة.. كل هذا بعمله واختياره وإرادته الحرة.. وقل ما تريد تحت عنوان (المسؤولية).

****
المفكر الألماني الجميل هابرماس (101 عاما)وفيلسوف (ما بعد العلمانية) والذى يرى أن(الدين)هو مصدر كل القيم النبيلة والجليلة في دنيا البشر..له كتاب أجمل منه اسمه(المعرفة والمصلحة)ترجمه عالم الاجتماع العراقى الشهير د/ابراهيم الحيدرى( 84 عاما)..يقول عمنا هابرماس: أن المشكلة ليست في الواقع الذى نعيشه ولا في علاقتنا بهذا الواقع ..المشكلة في(الأفكار)التى نكونها  نحن عن هذا الواقع..
هكذا قال مالك بن نبى (1905-1973م) في كتابه الأشهر(مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي)والذى قال فيه(حين يعتزل الإنسان وحيدا ينتابه شعور بالفراغ الكوني .. وطريقته في ملء هذا الفراغ هي التي تحدد طرز ثقافته وحضارته . وهنالك طريقتين لمليء هذا الفراغ ..فإما ان ينظر حول قدميه أي إلى الأرض أو أن يحول نظره إلى السماء..إلى الخالق العظيم فاطرالسموات والأرض..وقال أيضا :إن مدار الفكر الإسلامي كله هو حب الخير وكره الشر)..أهل التصوف لهم دعاء جميل وصلوا إليه بقلوبهم مع مالك بن نبى الذى وصل إليه بعقله ويصطبحون به يومهم (اللهم إنى أصبحت وأنا أحب الخير وأكره الشر..وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله).
هابرماس نشرت له اللوموند الفرنسية حوارا هاما يوم الأحد الماضى 13/4 عن الأزمة العالمية التى يعيشها البشر من كورونا وقال(هذه التجربة غير العادية ستترك بصمتها الكبيرة على الضمير العام).. وضع تحت جملة(الضمير العام) ألف خط .
عام 2008 م صدر فيلم(العمى) للمخرج البرازيلى فيرناندو ميريليس ,,عن رواية رائعة بنفس الاسم للأديب البرتغالي الراحل ساراماجو(1922-2010م) الحائزعلى نوبل عام1998 م .. سترى الناس في الشوارع يتعرضون لوباء خفي يُفقدهم البصر فورا ولا يستطيع المريض رؤية أي شيء سوى غمامة بيضاء ..ويتتبع الفيلم بعدها الخطوات المتسائلة الخائفة لمجموعة من الأشخاص..وتبدأ السلطات  فورا في إعلان الحجر الصحي على الأفراد لمنع تفشي المرض .. وتتطور الأحداث بشكل مثير عندما يبدأ المحتجزون داخل الحجر الصحي في استيعاب أن الحياة صارت أشبه بالسجن منها إلى الحجر الصحي.. ويبدأ(صراع أخلاقي)في التصاعد مع أحداث الفيلم .. ليقوم السؤال الكبير: ماذا لو غابت الأخلاق والأعراف الاجتماعية؟ ماذا لو تحول الإنسان تحت وطأة الظروف إلى وحش آدمي يُخرج للآخرين أسوأ ما فيه من أنانية وطمع..؟ هذا ما يحدث الأن مع (كوفيد19) أيتها البشرية العاجزة المخجلة.
****
يقولون أنه في أوقات انتشار الأوبئة تسيطر اللاعقلانية على السلوك البشري نتيجة لحالة (الخوف)..فيفقد الإنسان (طمأنينته ) وبالتالي (عقلانيته) ويتصرف وفقا لغرائزه التي تقوم بالأساس على(أنانيته)..
(النفس المطمئنة) نعرفها جيدا في الإسلام.. ونعرف كيف يصل إليها الإنسان(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ذٌكرت الطمأنينة مرتين وذكر القلب مرتين.. لا(خوف) إذن ..ولا (أنانية) ليبقى للمسلم تمام عقله وتمام خلقه.
يقولون أن قوام الأخلاق في الإسلام تجمعه ثلاثة أحاديث : لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه/من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليقل خيرا أو ليصمت/من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.. (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)صلى الله عليه وسلم.
سنقف كثيرا.. كثيرا عند الحديث الأول.. لنزداد من بركته صلى الله عليه وسلم وبركة الخيرات التى أتانا بها وحببنا الله إليها وحببها إلينا.. وكل تلك الأفكار والمشاعر والأحاسيس التى تعيننا على العيش الكريم.
ويبقى السؤال الأليم.. لما غابت كل هذه المفاهيم الجميلة الجليلة عن (القرية) وأهلها ..لماذا تركوا أنفسهم  للحزن من أنفسهم وعلى أنفسهم..؟.