الثلاثاء 19 مارس 2024
توقيت مصر 07:28 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

كورونا..حين يتنحى (الإنسان) عن تغيير التاريخ.

كلنا مؤمنون بالله الواحد المهيمن الحى القادر الذى له الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله.. سبحانه وتعالى علوا كبيرا (خلق الوجود وقدر الأقدار) كما قال الشاعر الكبير محمد إقبال وشدت به السيدة أم كلثوم فى قصيدة (حديث الروح).. وعرفنا مع من عرف فيما مضى كيف كانت الحروب خلال القرون الأخيرة هى (الرافعة الكبرى) لحركة التاريخ وتغييره.. ورأينا الدول الكبرى والامبراطوريات الصاعدة كيف كانت تصنع التاريخ بتلك الحروب تأكيدا  لسيطرتها وترسيما لنظام يدير شئون الدنيا بقراراتها.. كان يتم إعداد الحروب العالمية  لذلك إعدادا..فترسم على الورق أطرافها وميادينها ونتائجها أيضا..
****
نعرف مثلا أنه في عام 1914 تم إعداد أول نزاع عالمي بترتيب إنجلترا بشكل رئيسى ومعها فرنسا (194-1918) بهدف سحق ألمانيا وروسيا وإنهاءالخلافة العثمانية ورسم خريطة جديدة للعالم وفى القلب منه الشرق الاوسط وفى القلب منه(إسرائيل).. اندلعت الحرب وخلّفت ملايين فوق ملايين من القتلى وخراب عشرات فوق عشرات من المدن..وخرج العالم بنظام عالمى جديد..لم يستمر طويلا..فقد باتت اللعبة وقواعد اللعبة وألعاب اللعبة سهلة ومعروفة.
فيمر أقل من ربع قرن على انتهاء تلك الحرب العالمية الأولى..وليتم إعداد الصراع العالمي الثاني(1939-1944)وبشكل رئيسي هذه المرة من أمريكا _نعم من أمريكا ولوبياتها الشهيرة الصاعدة لحكم العالم الجديد وعلى رأسها اللوبى اليهودى_ كان الهدف من الحرب العالمية الثانية إنهاء عصر الإمبراطوريات الاستعمارية  الكبرى(بريطانيا وفرنسا)من أجل صنع القرن الأمريكي(القرن العشرين).
وبالفعل فقدت تلك الامبراطوريات قوتها وسيطرتها وظهرت قوى جديدة في العالم..ستقول لنا الحكايات أنه من 1- 22 يونيو عام 1944 اجتمع  في ولاية نيوهامبشر الأميركية  44 دولة من أجل وضع  خطط استقرارالنظام العالمي الجديد وقدمت بريطانيا أهم دليل على قبولها ببشائرالقرن الجديد ودخولها تحت قيادته..فتم الغاء الجنيه الاستيرلينى كعملة للعالم وليتربع مكانه الدولار..وهو ما عرف وقتها بإتفاقية (بريتوون وودز)..التى يوشك كورونا على انهائها اليوم إنهاء.
كان رأس ذلك العالم الجديد قطبين:أمريكا و الدول الرأسمالية والاتحاد السوفيتى والدول الاشتراكية و بعد ربع قرن أخرى تقريبا (وكانت الأيادى الخفية تحضر لصعود جورباتشوف) فيسقط  بعدها أحد القطبين سقطة مدوية..لتتربع أمريكا وحيدة على قيادة العالم..وفق ما كان يخطط له من يسيطرون على أمريكا وشركاتها وإعلامها وبانتاجونها وكونجرسها ومخابراتها .
****
الى أن جاء فيروس كورونا ليهدد تلك الحقبة الأحادية المسيطرة فى عقر دارها..ولتبدأ حقبة جديدة بأفكار جديدة ورؤى جديدة وان كانت مجهولة غائمة غامضة حائرة لكنها فيما تبدو واعدة ..
لم يجلس أحد ويقرر ذلك..لم يكن هناك مخلوقا على الأرض يرتب لذلك..باغتتهم الباغته الكورونية ذات فجأة فاجئه..من كان يقف أمام الكواليس ومن كان يقف خلف الكواليس ومن كان يشاهد الكواليس ومن كان(يمروح) للكواليس .

كل ما أنتجه الإنسان خلال القرون السابقة واستفردت به تلك الكواليس تم تنحيته وإزاحته جانبا ذات بغته مبغوته وفجأة مفجوءه..
لا أحد يعرف حقيقة ما حدث..فقد(اختفت الحقيقة )وما عاد أحد قادرا على القول بأنه يقول الحقيقة ..أو أنه كان الأسبق اليها..لا أحد يعرف على وجه اليقين كيف نشأ وتطورهذا الفيروس .. وكل ما قيل حول دورالصين أو دور أمريكا  فى ترتيب ما حدث لا يقوم دليلا واحدا متماسكا وصلبا على تأكيده بل سنجد الراى وضدة بنفس القوة والقطع..ليس هذا فقط بل _كما يقول الاستاذ محمد الرميحى فى جريدة الشرق الأوسط _ سقطت فكرة(الدراسات المستقبلية )سقوطا سقيطا مسقوطا..الفكرة التى كان العالم كله يغنى بها مع شروق الشمس ومع غروبها قائلا: لن ننتظر المستقبل ..سنصنعه!!.
اليوم وفى عالم الكورونا العاصف الكاسح الماسح..لم يعد بالإمكان التوقع في شأن المستقبل الإنساني أكثر من موضع القدمين..

****
يوم الخميس الماضى 26/3 نشرت مجلة (السياسة الخارجية) فورين بوليسى الشهيرة مقالا للكاتب مايكا زينكو(الباحث فى قسم العمل الوقائى بمجلس العلاقات الخارجية الأمريكى) يقول فيه: إن فيروس كورونا هو أسوأ فشل استخباراتي في تاريخ الولايات المتحدة..ويستطرد قائلا :سيكون انفصام البيت الأبيض ولامبالاته في المراحل الأولى من انتشار وباء فيروس كورونا من أكثر القرارات كلفة التي قام بها أي رئيس في تاريخ أمريكا الحديثة وحتى اليوم..أمريكا ستدفع الثمن باهظا ولعقود قادمة.
(برانكو ميلانوفيتش) صاحب كتاب (الرأسمالية فقط)والاستاذ فى جامعة نيويورك وكبير الباحثين في مركز(ستون)للدراسات الاقتصادية الاجتماعية يقول :أن الضحية الرئيسية لكورونا فى أمريكا هم البشر الذين تخلى عنهم المجتمع وأصبحوا من دون أمل في المستقبل أو عاطلين عن العمل ومن دون مدخرات أو أصول .. ثلث الأميركيين تقريباً لا يمتلكون مدخرات مالية ولا يتمتعون بأي ثروة..ويستطرد قائلا:إذا دفعت الأزمة الحالية إلى خروج مزيد من الناس من دون مال أو وظائف أو رعاية صحية وإذا أصبحوا يائسين وغاضبين..وإذا اضطرت الحكومة_أى حكومة_ إلى استخدام قواتها العسكرية أو شبه العسكرية لقمع أعمال الشغب و الهجوم على الممتلكات  فقد تبدأ المجتمعات بالتفكك).. أمريكا سيدة العالم مهددة كلها بالتفكك ..وهى بالفعل أقرب ما تكون لذلك..بعض الآراء تقول أن أميركا لن ينظر لها بعد الآن على أنها قائدة للعالم .
*****
العالم كله اليوم يعيش فى ذعر ذعير من جراء هجوم فيروس لا يرى..كيف لهذا الكائن غير المرئي أن يجبر الإنسان الحداثى بكل جبروته وطغيانه على البقاء وراء الجدران خائفا مذعورا ؟كثير من الباحثين يقولون : أن ما يحدث يدعونا جميعا للتفكير العميق خاصة في وقت العزلة الجبرية المفروضة علينا..لننظر نحن البشر في شكل حياتنا المعاصرة وأنماطها وذلك الذى كان منا من التمحورالغرور حول الذات وتلك النرجسية الكذوبة.. وذلك الاستهلاك النهم للسلع والمنتجاتوأن ننظر الى ما هجرناه من (السمو بالروح) و (التضامن الإنساني).                                                                                                     أين كانت(الروح)فى عالم ما قبل كورونا أيها الناس؟..أين هو(التضامن الإنسانى)مما ترونه كل يوم من بؤس ذلك الانسان فى بقاع الدنيا (الأخرى)ولا تواسونه سوى بكلمات منمقة بل وتعينوا عليه نوائب ظلمه وظالميه ؟
*****
الفيلسوف وعالم اجتماعي الألماني(هارتمون روزا)الأستاذ زائر في جامعة كولومبيا وابن الجيل الرابع من (مدرسة فرانكفورت)الشهيرة.. يحذر من إصابة المجتمع الانسانى الحديث بـ(احتراق نفسي جماعي) جراء فيروس كورونا.. وهومرض يصل الى الحد الذى يصاب فيه الانسان بالارهاق والانهيار..ويقول :نحن في مواجهة مشهد لم يحدث من قبل فى التاريخ بعد توقف أجزاء واسعة من الحياة البشرية بسبب فيروس كورونا..الأمرالذي (يعرى) المجتمع الإنسانى الحديث..تشوبنا الأن حالة من (عدم اليقين)على نحو سيء للغاية.
(اليقين)..!! ذكرتنا ايها الفيلسوف الجميل بأجدادنا الكرام الذين عاشوا وجاوزوا(علم اليقين)الى(عين اليقين)وينتظرون وننتظر معهم (حق اليقين)..فقد آمنا بأن الله قدأحاط بكل شيء علما ووسع كل شيء حفظا و أحاط بكل شيء سلطانه ووسعت كل شيء رحمته.. له الأمر كله..وإليه يرجع الأمر كله.
كورونا ليست فقط فيروس يقتل ويبيد..كورونا تأمرالإنسان أن(يفكر)وأن(يفهم) وأن يبحث عن(المعنى).