الثلاثاء 19 مارس 2024
توقيت مصر 11:46 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

عتاب الدكتور محمد عمارة على الإسلاميين

كان بين محقق التراث الكبير "محمود شاكر (أبو فهر) " وبين أستاذه "د.طه حسين" رحمهما الله تعالى، خصومة فكرية حادة، سجلها الأول في كتابه الشهير "المتنبي"، ومع ذلك كان "أبو فهر"، يحفظ للرجل قدره، وينزله منزلته، وفي بعض كتاباته كان يُلمِّح إلى قناعة "خفية" لديه بأنه -رغم تحفظاته عليه- "مجدد" من داخل التراث العربي الإسلامي.
وأذكر أني - منذ سنوات مضت- سمعت في لقاء جمعني مع الدكتور محمد عمارة ـ الذي رحل إلى رحمة ربه ليل أمس 29/2/2020 ـ عتابه على الإسلاميين الذين يصنفون عددًا من مفكري الأمة في قائمة "الخارجين" عليها، وهو ما جعل العلمانيين العرب يتحدثون عنهم باعتبارهم زملاء لهم في "الكار"! رغم أنهم أبناء الحضارة الإسلامية خرجوا منها وأبدعوا من خلالها، ولم يكونوا يومًا "علمانيين"!
والحال أنه كان مما يثير الدهشة أن أقرأ لبعض غلاة العلمانيين والمتطرفين من الشيوعيين واليساريين العرب مقالات تتعامل - مثلاً- مع الأفغاني والنديم ومحمد عبده وكأنهم "أئمة" العلمانية في التاريخ العربي والإسلامي!
سعد زغلول - على سبيل المثال - والذي يهاجمه "إسلاميون" ويحتضنه "علمانيون" باعتباره إحدى مرجعياتهم التليدة، هو الذي قال قولته الشهيرة: "ماذا نفعل إذا لم يفهم البقر"، تعليقًا على كتاب الشيخ على عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم" الصادر عام 1925م، والذي كان أول تأصيل أزهري لمبدأ فصل الدين عن الدولة.
ولا يخفى على أحد أن وصف "البقر" الذي استخدمه زعيم ثورة 19 - رحمه الله - كان إدانة قاسية ومهينة للعلمانيين العرب، تنسحب على الأجيال المتعاقبة حتى الآن، عملاً بالقاعدة الأصولية "العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب"، فكيف نعتبره علمانيًّا، ونتركه لمن "شتمهم" ووصفهم بهذا الوصف القاسي ليتاجروا به أينما حلُّوا وحيثما كانوا؟!
بل ربما تصاب بالصدمة، حين تكتشف عشرات الدراسات والمقالات التي جعلت من الفقيه والعالم الأندلسي الكبير "ابن رشد" أحد أبرز الآباء المؤسسين لـ"العلمانية العربية"! فضلاً عن رأيهم في بعض المدارس الكلامية الكبرى، مثل "المعتزلة"؛ إذ يعتبرونهم "الجذور العلمانية" في الفكر السياسي الإسلامي، رغم أن "المعتزلة" شاركوا في حكم الدولة الإسلامية على مدى ثلاثة عقود تقريبًا في خلافة المأمون والمعتصم والواثق، ولم نسمع أنهم طالبوا بفصل الدين عن الدولة!
والحال أن ملاحظة د.عمارة قد يختلف معها البعض، ولكن هذا الخلاف لا ينقص من وجاهة الملاحظة، والتي تلقي الضوء على الضرر الذي قد يترتب على استسهال النقد والتجريح بلا علم أو كتاب مبين.
ثم إن ثَمة "جلبة" و"شوشرة" لا تتيح استجلاء الحقائق على وجه الدقة أو التقريب في مثل هذه الموضوعات، مثل تلك التي تتعلق بقاسم أمين، سيما فيما كان يقصده من مسألة "الحجاب"؛ إذ قرأتُ أنه لم يكن يقصد غطاء الرأس - المعروف باسم الحجاب حاليًّا- وإنما كان يقصد "البرقع" الذي كان سائدًا كعادة بين النساء المصريات، غير أن هذا الرأي ما يزال هو الأضعف صوتًا بين "زعيق" العلمانيين و"نفير" الإسلاميين، واللذَينِ اجتمعا على أنه كان يقصد غطاء الرأس وتعرية المرأة!
أنا هنا لا أدافع عن قاسم أمين أو طه حسين، ولكن فقط أُلقي بحجر في بحيرة ما زال ماؤها راكدًا منذ عشرات السنين، ونحتاج فعلاً إلى مراجعات بشأن العديد مما استقر في الوجدان العام باعتباره مسلمات.
رحم الله مولاي وشيخي الراحل الكبير د. محمد عمارة