الثلاثاء 19 مارس 2024
توقيت مصر 10:12 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

هذا الرجل.. وكل هذا المعنى لحياته وحياتنا

شرف كبير للإنسان أن يتجاوز فى حياته حدود حاجات الدنيا وضروراتها  فيعطى لهذه الحياة معنى وقيمة واثر وشرف أكبر وأكبر أن يمنح حياة الأخرين هذا المعنى الذى كان له ولحياته..والدكتور محمد عماره_الذى يمر الأن بأزمة صحية صعبة _ أحد أكابر هؤلاء الناس الذين منحوا حياتهم وحياتنا كل هذا المعنى الذى كان لها .. والشكر موصول للتيار اليسارى الفكرى والسياسى الذى قدم لنا ما سيصبح  بعد ذلك شموسا وأقمارا  وجبالا راسخة فى سماء الفكرة الإسلامية  وأرضها .. تفكيرا وتنظيرا وطرحا واجتهادا عميقا ..    سنذكر العلامة د.عبد الوهاب المسيرى الذى كان يقول لنا باسما كنت شيوعى على سنة الله ورسوله..سنذكر الحكيم البشرى(المستشار طارق البشرى) الذى كان مفكر الشيوعية الأول فى مصرالراحل(محمود أمين العالم) يقول عنه: مهما حدث سيظل طارق البشرى إبن اليسار المصرى  فى العصر الحديث ..ثم نأتى لصاحب المائتى كتاب وألاف المقالات و عشرات الحوارات  فى الفكر الاسلامى و فلسفته وتاريخه وشروحاته العريضة العميقة الصلبة .. الدكتور محمد عمارة حفظه الله وشفاه..
****
الدكتور محمد عمارة أحد أساطين الفكر العربى المعاصر وقد مر فى تجربته العريضة على كل الشوارع والطرقات والميادين والحوارى الفكريه والتنظيمية ..وليصبح  بعد  ذلك أحد أقوى وأصلب الأركان فى الحياة الفكرية والثقافية العربية والإسلامية.. وليكون أحد أقوى المطارق التى هوت على الفكر الماركسي والعلماني بطريقة جعلت من الرجل خصمًا لدودًا للغاية لعدد كبير من الإعلاميين والمثقفين الكارهين لقصة الإيمان والتدين..
د.عمارة ينتمي إلى ما اصطلح على تعريفه بـ(المدرسة الوسطية) هذه الوسطيةالتى تعني فيما تعنى (صفاء الرؤية) أهم خصائص الفكر الإسلامي التى لا يمكن أن نبصر حقيقة الإسلام بدونها.. ويعد الآن أهم منظر فكرى لهذه المدرسة..وأكثر تجلياتها قوة ووضوحا ..هو يصف تلك الوسطية بـ(الجامعة) التي تجمع بين عناصر الحق والعدل.. رافضا الليبرالية بحداثتها النافية للتراث.. والماركسية التى حاولت تصنيع الطبيعة والانسان والمجتمع ولتصبح بعد ذلك أكبر أكذوبة شهدها تاريخ أبناء سيدنا أدم عليه السلام..  ****
تيقن الرجل أن(العقل) هو خاصية الإنسان الأولى والأساسية وبه يتحقق كماله الأسمى ليكون (مخلوق الله المختار)والوصف للاستاذ فهمى هويدى حفظه الله .. فقضى د.عمارة عمره كله فى تقديم مشروع فكري قائم على التعقل والتفكر والتدبر والتأمل وترتيب الأولويات وضبط المصطلحات هادفًا إلى تكوين ما يمكن تسميته (المكتبة الصلبة) للثقافة الإسلامية المعاصرة والتي كان المعتزلة تاريخيًا أبرز رجالاتها غير أنه وازن توازنًا أمينًا جامعًا بين الشرع والعقل.. بين الحكمة والشريعة.. بين كتاب الله المقروء(الوحى)وبين كتاب الله المنظور(الكون) .   أثناء ذلك كانت قبضات يده القوية تعمل فى أحشاء الفكر العلمانى / اللاديني كاشفة عواره وضعفه الشديد فى التعرف على  الحقيقة الإنسانية بروحانيتها وماديتها .وستظل كتاباته تقرأبشغف وقوة كعلامات عصر وزمن بأكمله  قراءة مرجعية وقتا طويلا..
 استطاع الرجل أن يزعزع الفكر العلماني/اللادينى من جذوره بأرائه الدقيقة  القوية والتى تحمل غضبة حق للمسلم صاحب العقل الشجاع والقلب الصلب والعلم الوفير..غزارة إنتاجه أهم الشواهد  على ذلك.
أحد أهم مجالات إنتاجه بالطبع هو تحقيق الأعمال الكاملة لرواد النهضة العربية الحديثة: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وقاسم أمين وعشرات الدراسات والتراجم لحياة الأعلام ورجالات الإصلاح فى العصر الحديث..
جمهور إذاعة القرآن الكريم من كل المصريين لا ينسى برنامج (حقائق وشبهات) وحلقاته الثلاثين التى فند فيها الشبهات المتعلقة بالتشكيك في قدرة الأمة على النهوض من كبوتها الحضارية الحالية.                               
****
كان الدكتور عمارة طوال حياته مدافعا صلبا عن مصر وشخصيتها وتراثها العربى  والاسلامى وحرص دائما على أن يكون على توافق مع (المؤسسة الدينية الرسمية) فكان عضوًا بمجمع البحوث الإسلامية وعضوًا بهيئة كبار العلماء.. كنا نراه دائمًا هناك.. حتى وإن اتخذت تلك المؤسسة مواقف لا تعجبه وهذا موقف كل الإصلاحيين الكبار عبر التاريخ الحديث..
لذلك حين كلفه فضيلة الإمام أحمد الطيب شيخ الأزهر برئاسة تحرير مجلة الأزهرفى يونيو 2011.. تردد قليلا ثم قال في كلمة قصيرة :شرفت بتولي رئاسة تحرير هذه المجلة في هذا الوقت العصيب من تاريخ الأمة وسأسعى لاستكتاب كتاب جدد وفتح آفاق جديدة وسأعمل جاهدًا لأن تكون مجلة الأزهر منبرًا للفكر الوسطي المعتدل)..ولتصبح مجلة الأزهر فى عهده أحد أهم مصادر الثقافة الإسلامية المتنوعة للمواطن العادي فكرًا وفقهًا وسيرة وتاريخًا.. وليصبح الكتاب الشهري الذي تهديه المجلة للقارئ تنتظره الأسرة المصرية كلها كبارًا وشبابًا الكتاب الوحيد الذي ( كتبه) الشيخ الشعراوي بقلمه (الأدلة المادية على وجود الله) وكتب مقدمته الثرية الدكتور عمارة نفذ فور صدوره.. كذلك كتاب الراحل د. مصطفى محمود (حوار مع صديقي الملحد)..  ناهيك عن كتابى  د.عبد الرحمن بدوى _الفيلسوف الوحيد الذي أنجبته مصر المعاصرة_..(دفاعا عن القرأن ضد منتقديه)..و(دفاعا عن النبى محمد ضد المنتقصين من قدره) صلى الله عليه وسلم.
****
كل ذلك كان لابد أن (يصيبهم) بقلق شديد وغيظ أشد..من هم؟؟ لا أعرف..فقط فهمنا أن الرجل أصبح الشوكة التى تسكن جنبهم  وأنهم موصولون مع بعضهم بمليون خط ..!! وإذ فجأة فجيئة مفجوءه وفى وقت واحد رأينا كل الفضائيات  المعروفه بمواقفها غير الوطنية والمعادية لقوة المجتمع والدولة والقوة الناعمة للوطن..رأيناهم  يصرخون فى هيستيريا  ضد الرجل وضد التوزيع الهائل للمجلة للوصول لغرض واضح ومحدد ..إبعاد الدكتور عمارة .. والتخلص من كابوس السبعين ألف نسخة من (مجلة الأزهر)التي أصبح المصريون يقرؤنها شهريًا (وهذا هو بيت القصيد) والذى اصبح يفزعهم بالليل والنهار..
فأن يكون الناس مثقفين دينيا ..وبمنهج وسطى وبتزايد يتزايد كل يوم..موضوع  يحتاج الى وقفه وقيفة واقفه..وبالفعل نجحت تلك الأصوات المعادية للدولة ومؤسساتها الصلبه كالأزهر الشريف..نجحت في الضغط الذى كانت تقوم به كل يوم..وأختار الدكتورعماره الإبتعاد الهادىء منعا لحرج قد يشعر به فضيلة الإمام شيخ الأزهر ورجال المؤسسة الأعرق والأعظم في تاريخ مصر الحديث .
****
واخيرا تاملوا تلك العبارات ومعانيها  وكل هذا العمق والبهاء الذى فيها  والتى تكاد تلخص ما عاش الرجل له كل حياته : (عندما بدأ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقام أولى الصناعات الإسلامية الثقيلة: صناعة الجيل الفريد المؤسس للدين.. نهض هذا الجيل بتغيير الواقع وبناء الدولة وتطبيق الشريعة... ثم توالى التراكم المعرفي في علوم الدين والدنيا - الشرعية والمدنية - تلك التي كونت الحضارة العربية الإسلامية، التي غيرت وجه الدنيا ومجرى التاريخ. ..) .
حفظ الله الدكتور محمد عمارة وكتب له النجاة من كل سوء .. وجعل عطاءه مديدا خصبا ثريا ممتدا  في حياته وبعد حياته .