الأربعاء 24 أبريل 2024
توقيت مصر 13:16 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

من هناك نبدأ..ومن هنا نرحل !!

..وقد تعلمنا من التاريخ أن النهضة الأوروبية بدأت حين خرجت الكنيسة من التدخل في نظام الحكم، وأصبحت كنيسة دينية وليست سياسية.. يجب أن نفصل الدين عن الدولة فالدين لله والوطن للجميع وهو شعار 1919 الذي وحد المصريين وحاول بناء أول نهضة مجتمعية حديثة. هذا الموضوع شديد الحساسية. الكثيرون يعتقدون أن سبب التخلف هو البعد عن الدين، والحقيقة أن سبب التخلف هو البعد عن العلم والتفكير العلمى..)هكذا تحدث ا.د محمد أبو الغار فى مقال له الثلاثاء 14/1 بجريدة المصرى اليوم ..الدكتور أبو الغار(80 عاما) من أهم علماء واطباء النساء والتوليد فى المنطقة ولديه أفكار حول الإصلاح والنهضة..وهو رئيس الحزب العربى الاجتماعى الديمقراطى ومن آن لأخر يطرح هذه الأفكار فى مقالات ,,ومؤخرا صدر له كتاب مهم عن ثورة 1919(أمريكا وثورة 1919) دار الشروق ..
***
ما قاله الدكتورأبو الغار فى مقاله الاخير كلام قديم جدا وتمت إعادته وتكراره مئات المرات وتجاوزته حركة الأفكار وتطورها بمسافة كبيرة ..ليس هذا فقط بل ويخالف حقائق التاريخ وحقائق الاشياء ..وهو فى هذا المقال يتحدث عن ثقافته الشخصية وشخصيته المعرفيه بطريقه واضحة.. فهو يرى أن التاريخ الصحيح للبشرية يبدأ من عصر النهضة الأوروبية ..وهو يرى ان انسان هذه النهضة هو الانسان المثالى وكل ما انتجه فى الحياه من حضارة وعلم هو أيضا مثالى ..وحضارته هى الحضارة النهائية التى أنهت تطور وتقدم البشرية وعلى باقى البشر التسليم بذلك !.
الدكتورأبو الغار ليس وحده من يؤمن وينادى بذلك هناك بالفعل تيارموجود فى الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية وهو يرفع راية ما يعرف بالحداثة التى تقاطع التراث الحضارى للشرق العربى والاسلامى وليست هناك أى مشكله فى ذلك ..فهى فى النهاية إختيارات وقناعات.. وللانسان كامل الحرية والمشيئة فى الاختيار ..أين المشكلة إذن ؟
***
المشكلة أن هذه الأفكار تطورت وتقدمت كثيرا عن المحطة التى يقف عندها الدكتورأبو الغار وأغلب هذا التيار.. ويبدو أنه لم يكن لديهم الوقت أو الروح أو الجدية الكافيه لأن يتابعوا هذا التطور والتقدم للأمام..ولم يحدث أى مراجعة بينهم وبين أنفسهم حول هذه الأفكار إضافة أو حذفا أو حتى تركها كلها والوقوف على عتبة جديدة كما يقولون..وهم ليسوا وحدهم فى ذلك على فكرة.. فالتيارات الدينية الإصلاحية أيضا لم تقف وتتلفت وتسمع وترى وتراجع ..بل هى فى الأصل وللأسف لا تقرأ ولا تسأل ولا تتابع.
يرجن هابرماس (1929م_ )وما أدراك من هو هابرماس فى العقل الاوروبى الأن.. وحين يأتى هابرماس ويطرح أسئلته ومقولاته حول الدين والمجتمع والحياة والديمقراطية والسلطة.. فينبغي أن نسمع ونفهم.  فالرجل ليس مجرد عالم اجتماع ولا مجرد مفكر..ولا حتى مجرد فيلسوف..إنه كل ذلك ..ومؤخرا طرح مفهوما وضّاحا مليء بالمعنى حول فكرة(الدين)..والدين في الغرب ومدارسة الفكرية موضوع بالغ الحساسية والتركيب..
***
ماذا قال هابرماس ؟ قال :أن معظم المبادئ العلمانية الكبرى (كالعدل والمساواة)مصدرها الدين وتعاليمه.. حتى أن أهم صيغة لعلاقة السلطة بالمجتمع وهى صيغه (العقد الاجتماعي)مستمدة من الدين..أيضا فكرة(حقوق الإنسان)والجدارة الإنسانية مستمدة من الدين الذي ينص على أن كل الناس سواسية أمام الله..                   
ويفجر الرجل أخطر معنى فيقول: لولا المصدر الديني للأخلاق والعدالة لكان من المشكوك فيه تعزيز هذه المثل وتثبيتها في واقع البشر على الأرض..! نحن الآن أمام  أهم مفكر غربي ويعتبروه  أهم عقل فلسفي ورائد الخطاب السياسى في هذا الغرب  كما يصفوه,, الرجل والذى قال ببساطة أن(المرجعية الدينية) لا تتعارض أبدا مع الحياة.. وهنا أرجو من الدكتورأبو الغار أن يحاول الاقتراب من جملة (تثبيتها فى واقع البشر..)كما قال هابرماس.. والدكتور يقول فى مقاله الاخير(..الاستثمار في الإنسان هو الأهم والأبقى) صحيح.. ولكن كيف تثبت فى الانسان القيم والمبادىء والاخلاقيات والمعارف التى تستثمرها فيه اذا لم تملأ وعيه وعقله وروحه بــ(ألم يعلم بأن الله يرى..) أو بــ(إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون..) أو بــ(ليعلم الله من يخافه بالغيب..) ..هذا هو ما توصل اليه هابرماس بعد سبعين سنه من البحث والسؤال والفهم ..وللأسف لازال البعض يعيش فى الكسل العقلى اللذيذ.
***
نقطة أخرى هامة ..وأهميتها متجددة..وهى ثورة 1919 التى تحدث عنها الدكتورأبو الغار وكتب عنها كتابا  فقد قال زعيمها وزعيم الأمة كلها (سعد زغلول )عام 1925تعليقا على كتاب(الإسلام وأصول الحكم )للشيخ على عبد الرازق (كيف يدعي الشيخ أن الإسلام ليس دينًا مدنيًّا ولاهو بنظام يصلح للحكم؟ فأي ناحية من نواحي الحياة لم ينص عليها الإسلام؟..أوَلَم يقرأ أنَّ الأمة حكمت بقواعد الإسلام عهودًا طويلة كانت أنضر العصور..؟ كيف لا يكون الإسلام مدنيًا وهو دين حكم؟..ويضيف :الذي يؤلمني حقًا أنَّ كثيرًا من الشبان الذين لم تقوَ مداركهم في العلم القومي والذين تحملهم ثقافتهم الغربية على الإعجاب بكل جديد..سيتجيزون لمثل هذه الأفكار خطأ كانت أم صوابًا دون تمحيصٍ ولا درس وكم وددت أن يفرق المدافعون عن الشيخ بين حرية الرأي وبين قواعد الإسلام الراسخة التي تصدى كتابه لهدمها..) .
***
هذا نص كلام زعيم الأمة ومؤسس حزب الوفد(الذى كان) قلعة الليبرالية في مصر كما ورد في كتاب (سعد زغلول: ذكريات تاريخية) لمحمد إبراهيم الجزيري. 
 بعد ذلك بأربع سنوات(1929 )نشر العلامة الكبيرد.عبد الرازق السنهورى بحثًا آخر في نفس الموضوع بعنوان:(الدين والدولة في الإسلام)أ..كد فيه على أنَّ الدولة جزءٌ من رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وأن الإسلام الذي يجمع بين الدين والدولة و(يميز بينهما ) في ذات الوقت فالدين ثابت والدولة متطورة لأنَّ فيها اجتهادًا بشريًّا قائما على المصلحة والتدبيروهي – يقصد الدولة – خاضعة لحكم عقولنا وتتطور مع الزمان والمكان.. فهي إذًا تابعة للتطور الاجتماعي غير المتناهي.. أنتهى كلام العلامة السنهورى ,, ولنقف كثيرا عند الفارق الكبير بين(الفصل) و(التمييز).
***
دعونا نذكر الحديث الشريف (أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم..) ما أروع كلامه صلى الله عليه وسلم..وكان الفاروق عمر يقول (تفقهوا فبل ان تسودوا )..وبكل الصراحة لو كان موضوع الحديث يتعلق بالتخصيب المجهرى واطفال الانابيب لكان د.ابو الغار قد قرأ أحدث وأوسع ما يتصل به ..إنما موضوع يتعلق بالدين والمجتمع  والأمة والتاريخ ..فأى كلميتن يكفوا ويزيدوا ..أيصلح هذا ؟!
تريد أن تتصدر العمل العام والشأن العام..؟من حقك.. ولكن عليك أن تعرف وتقرأ وتسأل وتبحث وتتابع..وإلا فأنت لا تعرف حق نفسك عليك ولا حق مجتمعك عليك..وقديما وحديثا قالوا:أفضل العلم وقوف المرء عند علمه..وأفضل العقل معرفة الرجل بنفسه .