السبت 20 أبريل 2024
توقيت مصر 00:20 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

شيخ جليل.. لا ينتظر شىء ولا يعبأ بشىء

يقولون كما بدأت ستبقى .. ويبدو أن هذه المقولة تنطبق بشكل كبير على الشيخ الجليل(عبد المجيد سليم) الشيخ     الـ 33 للأزهر الشريف(1950 – 1952م) فكانت بداية حياته صداما مع الملك فؤاد(1868-1936م) ثم ابنه الملك فاروق(1920 -1965م) وكانت نهاية حياته صداما مع حركة يوليو1952م ..لكن الفارق بين الصدامين كان كبيرا ويعكس فى طبيعته  رؤيتين مختلفتين تماما فى التعامل مع(الازهر الشريف) وعلماؤه ورجاله ..وفى المجمل كنا امام عهد ينتهى وعهد يبدأ.. اختلفت فيه زوايا النظر الى فكرة الدولة والدين والسياسة والاحزاب والمؤسسات .
ماهى الحكاية التى بداخلها الف حكاية وحكاية ؟ ومن هو الشيخ الجليل الذى تحمل سيرته ومواقفه الف معنى ومعنى؟ وما الذى أوصل الأمور مع الملك فؤاد ثم مع ابنه الملك فاروق الى الصدام ؟ وما الذى أوصل الأمور مع حركة يوليو الى النهاية ؟  وما هى النهاية ..؟                                                                     
***
حين حصل الشيخ على درجة العالمية  1908م عين مدرسا للفقه والأصول بالأزهر وإذ سبقته سمعته القوية المشرفة الى عاطف باشا بركات ..ابن اخت سعد باشا زغلول واول ناظر لـ(مدرسة القضاء الشرعى).           تلك المدرسة العظيمة التى دعى الى تاسيسها الشيخ محمد عبدة عام 1907م فاختاره عاطف باشا لتدريس مادة الفقه والأصول ..وعمل هو نفسه بالقضاء الشرعى , وحدث أن عرض عليه قضية وقف.. وكان ناظرهذا الوقف الملك فؤاد وكان المدعى يريد ابعاد الملك عن نظارة هذا الوقف!! وبالفعل قضى الشيخ بعزل الملك فؤاد عن نظارة هذا الوقف وقال (أن وجود الملك على نظارة الوقف يجعل موقفه حرجًا.. فإما أن تضيع حقوق الموقوف عليهم وإما أن تضيع هيبة الملك)..ليس هذا فقط بل وتم تنفيذ الحكم .!
كل هذا قد يكون عاديا فى ظل المناخ العام الذى كانت تعيشه مصر وقتها ..ولكن غير العادى أن الملك فؤاد حين عرض عليه مصطفى باشا النحاس عام 1928 م تعيين الشيخ في منصب الإفتاء وافق على الفور.. يا هول الهول ايها الهول ..واين(طبق الانتقام) الذى لا يؤكل الا باردا ..؟ لكن اخلاق النبلاء أسمى من ذلك.
وصدرالمرسوم الملكي بالتعيين..وقال النحاس باشا بعدها(لقد كان المنصب جديرا به وكان هو جديرا بالمنصب.. كأنما خلقا لبعضهما) .. فؤاد باشا سراج الدين حكى لأحد الأصدقاء أنه كان كثيرا ما كان يدخل على النحاس باشا فيجده جالسا على مكتبه  يقرأ القرآن واضعا المصحف بين يديه على ركبتيه ..كأنما لا يريد أن يراه أحد ..دفعا للتظاهر بالتدين أو لأسباب سياسية ..لا يهم ..المهم أن الرجل كان من أهل التلاوة والقراة للقرآن العظيم ..رحمهم الله جميعا .  
***
مكث الرجل مفتيا  للديار المصرية 20 عاما وترك ثروة هائلة من الفتاى والأحكام .. والحاصل أنه أثناء حكم الملك فاروق تلقى سؤالا عن حكم الشرع في (رجل يراقص النساء ويشرب الخمر) وكان ذلك بعد حفلة أقامتها إحدى اميرات الاسرة المالكة وحضرها الملك فاروق ونشرت بعض الصحف صورها ..وفهم الرجل أن هناك من يريد أن يستغل الفتوى لأغراض خفية..غير معرفة الحكم.. فالمسألة واضحة .. لكنه قرر أن يكون قدوة فى الجهر بالحق ..وقال أن هذا حرام شرعا وهاجت الدنيا وماجت..وفى هذه الاجواء المتوترة وجه الديوان الملكي الدعوة إلى الشيخ  عبد المجيد  لحضور صلاة الجمعة مع الملك في عابدين.. فذهب وجلس في المكان المخصص له وبعد انتهاء الصلاة وقف كبار المصلين لمصافحة الملك قبل أن يدخل إلى حديقة القصر.. ووقف الشيخ في مكانه استعدادا للمصافحة.. وكان كل من يأتي عليه الدور للمصافحة يرفع يده قبل أن يدركه الملك .. لكن الرجل كان من أهل الفهم والنور..فقد كان صوفى المشرب..فقررعدم رفع يده ! وكانت نية الملك بالفعل أن يترك يد الشيخ ممدودة للمصافحة دون أن يصافحه..وبالفعل مر من أمامه دون أن يصافحه ..وحفظ الله الشيخ بما يحفظ به عباده الصالحين.
حين قررت الحكومة ترشيح الشيخ مصطفى عبد الرازق شيخا للأزهرعام1945م ..اعترض الشيخ لعدم انطباق الشروط الاساسية عليه كما جرت الاعراف  فى منصب شيخ الازهر رغم الصداقة العميقة والقديمة بينهما لكنها مسألة معايير وثوابت .. وحدث في تلك الأثناء ان استدعى النقراشي باشا رئيس الوزراء(1888-1948) الشيخ والذى كانت له اموال مجمده كمكافات ماليه سابقة بوزارة الأوقاف وكانت تقدر بآلاف الجنيهات ولوح له رئيس الوزراء بالإسراع في صرف المكافأة إذا وافق على تعيين الشيخ مصطفى عبدالرازق وفوجئ الشيخ بالعرض  الدنىء من دولة رئيس الوزراء !! فترك له المكتب وانصرف دون استئذانه ..فلما أقرت الحكومة تعيين الشيخ مصطفى عبدالرازق شيخا للأزهر.. صمم الشيخ سليم على الاستقالة من منصب مفتى الديار.
وفى عام 1950 م فى وزارة الوفد عين الشيخ عبد المجيد سليم شيخا للازهر الشريف .. لم يلبث الا قليلا حتى تم عزله بعد اشهر تصريح صدرمن شيخ ضد ملك ..وهوالتصريح الشهير(تقتير هنا واسراف هناك ..) رغم أن الرجل قال لأصدقائه بعدها أن كان يقصد بهناك( التعليم المدنى)..وذلك بعد تخفيض ميزانية الازهر .. لكن الخبثاء أخذوا التصريح والقوه فى حجر الملك الذى كان يقضى الصيف فى مدينة كابرى بايطاليا فلما عاد عزل الشيخ من منصبه ..                                                                        وكان الملك فاروق فى هذه الفترة بالغ التوتر خاصة بعد علمه بالترتيبات الجديدة للمنطقة فى ظل وجود اسرائيل و اتجاه النظام العالمى الجديد بعد الحرب العالمية الثانية لتغيير بعض الانظمة فى الشرق الاوسط .. لذلك فحينما نمى الى علمه ان الرجل لم يكن يقصده بجملة (اسراف هناك )إنما يقصد التعليم المدنى أعاده فورا الى منصبه.

***
قامت حركة يوليو والشيخ فى منصبه شيخا للجامع الازهر ..وحاول النظام الثورى الجديد أن يضع حدودا لهذه المؤسسة التاريخية الكبيرة ! فرفض الشيخ الجليل أى تدخل في شؤون الأزهر.. وكان الراحل فتحى رضوان  الشخصية الوطنية الكبيرة هو الوزير المسؤول عن شئون الازهر مع وزارة الارشاد وقتها .. وكان يعلم تاريخ الشيخ وصلابته .. وتوقع أن يرفض الرجل طريقة الثوار الجدد وانه لا محالة سيستقيل فحاول أن يلين جانبه لكن الرجل بالفعل استقال فى سبتمبر 1952م بعد شهرين فقط من الحركة المباركة .. ولم يقف الى جواره أحد ..!؟ لا من الاحزاب ولا من الجماعات الدينية ولا من رجال الدولة القدامى ..وقٌبلت استقالته ..كان طبيعى ومتوقع ان يكون موقف رجال الثورة منه ما كان .. فقدر الشجاعة والصلابة والقوة فى تاريخه(تاريخى وراءى كما يقولون) لم يكن ليتحملها أحد من هؤلاء الثوار .. ولم يكن ليقبل بها أحدا منهم..خاصة من رأس المؤسسة الأعرق والأعظم فى تاريخ مصر والمصريين
***
نشأ الشيخ النشأة العادية التى كان يتنشأ عليها كل المصريين فحفظ القرأن فى سن مبكرة والتحق بالازهر و كان الشيخ محمد عبده وقتها فى عز عزه كما يقولون وهو الشيخ الإمام الذى انتبه الى نباهة الرجل واطلق عليه لقب (بن سينا الأزهر) ..من ناحيته كان الرجل يرى الشيخ الإمام مثال الفهم والاطلاع والبلاغة.. لكنه تأثر كثيرا بالشيخ حسن الطويل استاذ الاساتذه كما كان يصفه جمال الدين الافغانى ويقول : ابرع من تعامل مع المنقول والمعقول(يقصد النص الدينى  والواقع العملى والعلمى) ..
 عاش الرجل 72 عاما عالما جليلا ..عرف بمواقفه القوية والشجاعة ودفاعه المخلص الصادق عن الإسلام والقرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم والتصدي بكل حزم وقوة لأي مساس بالشريعة  وثوابتها.
كان الرجل بحق لا ينتظر شىء ..ولا يعبأ بشىء.