الجمعة 19 أبريل 2024
توقيت مصر 14:46 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

محمد على وعمر مكرم.. التاريخ والبشر الصانعون له

تظل الدوافع النفسية من أخطر الدوافع التى تتحرك بخبث وريبة فى دنيا السياسة والسلطة والبشروافكار البشر، التاريخ يكاد يكون سفينة كبيرة تبحرفى عباب النفس البشرية بكل ما فيها من أنانية وحسد وحقد وغيرة وانتقام وكرامة ونجاح وفشل ودهشة وخيانة ووفاء وتصالح وتخاصم ونسيان وتذكر وكبر وعلو وفخر وملك وسيادة ,, والتفسير النفسى للتاريخ هو أحد اصدق وأوضح أنواع التفسير والفهم لأحداث التاريخ البشر الصانعون له
للأسف الشديد سيقول لنا التاريخ أن  الدنيا مليئة بأخس الحوافز ,هى ليست نعيما وليست اسرة سعيدة تضم أخوة متحابين , هى اشبة بمستعمرة مليئة بالاطماع والطامعين ودنيا الاغوار المظلمة والصراعات العميقة..          كل اوصاف الانسان المجردة فى القرأن ما بين ظلم وجهل وجدل وطغيان وسفالة وسافلين ورغبة محمومة فى التملك والتعجل ..واستثنى القرأن من ذلك كله(إلا..) من أهتدى بهدى ونور من الله
***
تقول الحكاية التى وراءها وأمامها ألف حكاية وحكاية أن الصدام بين محمد على(1769-1849) والى مصر بعد انتهاء الحملة الفرنسية1801 ونقيب الأشراف عمر مكرم(1750 -1822) كان لحظه صدام نفسية و تاريخية بكل ما تعنيه الكلمة و انتهى نهاية تليق باوصاف البشر التى ذكرناها سابقا وانفراد محمد على بالسلطة انفرادا كاملا.. وخروج القيادة الشعبية من السلطة خروجا كاملا.
ذلك انه كان قد صعد على مسرح الأحداث بعد هزيمة حمله نابليون(بطل)اسمه (الشعب المصرى) لا أتراك ولا مماليك ..والذى بدا أن هذا الشعب استشعر معنى الحرية والانتصار وارتفاع الهامة..فاختارله قياده متمثلة فى الأزهرالشريف ونقابة الأشراف ,,كان الأزهر طوال تاريخ مصر الحديث هو (حزب الشعب)  وحصنه الحصين علما وكرامة ودينا ودنيا ,, سيفعل محمد على والانجليز وحركة يوليو الافاعيل الفعولة فعلا فاعلا لتغيير هذا المعطى التاريخى تماما سواء بالتعليم المدنى أو بتأميم الوقف أو بانشاء كيان موازى(الأوقاف/ الافتاء) ,,
***
وانتظم الشعب كله تقريبا فى حركه واضحة و تيار منظم بعد خروج حملة نابليون فى معادلة جديدة رقمها الأكبر هو الأزهر وعلماء الأزهر .. وفكرت هذه القيادة الجديدة فى اختيار حاكم جديد للبلاد يتناسب واللحظة التى تحياها البلاد.. وجاءت الفرصه حينما ضاق المصريون ذرعاً بحكم خورشيد باشا الوالي على مصر من قبل السلطان العثمانى..فتقدموا إليه بطلب تولية محمد علي عليهم 1805م .. وكعادة المصريون فى الريادة كانت هى المرة الأولى فى تاريخ الدولة العثمانية التى يختار فيها شعب حاكمه وواليه ..وتوجه عمر مكرم نقيب الأشراف وعبد الله الشرقاوي كبير العلماء إلى محمد علي وألبساه لباس الولاية وأخذوا عليه عهدا ألا يفعل شيئا دون الرجوع إليهم .. وهوما قبله محمد على وثبته السلطان واليا . فرض المصريون كلمتهم هذه بقوة الدماء والشهداء فى ثورة القاهرة الاولى والثانية وطردوا بقايا نابليون.
***
وبدأت لحظه الصدام الحتمية والتى لم تكن الا زمنا مفقودا وبات الأن موجودا .. أراد محمد على فرض ضرائب جديدة فى البلاد إذ كانت  تغلى فى راسه أفكار امبراطورية مركزها مصر _قلب العالم_ ويريد جيشا ورجال وذلك لا يكون الا بالمال ..فاجتمع العلماء فى بيت عمر مكرم وكتبوا إلى محمد على بضرورة إلغاء هذه الضرائب..لما فيها من إرهاق على كاهل الناس ,,وكان العلماء قد تعاهدوا بينهم على توحد الكلمة وترك(المنافسة) فيما بينهم ومواجهه الوالي بصلابة تجعله يحترم الشعب وقيادته.. وأرسل إليهم محمد على يطلب لقائهم فرفضوا وأصروا على عدم لقائه إلا بعد رفع الضرائب ..
لم تكن العلاقة بين العلماء كما ينبغى أن تكون  فى مرحله انتقالية مهمة كتلك المرحلة وهم ضمير الأمة ووجدانها ولسانها الناطق.. وكما يقولون فان النعماء والحسد لا يفترقان.. وكان صاحبنا عمرمكرم من أهل النعم الكثيرة,, فغير انه كان من الأشراف والعلماء فقد كان من الأثرياء وله حضورقوى وكلمه مسموعة لدى الشعب..وكان ذلك مصدر قوته.. وهوما جعل محمد على يتوقع ان من اجتمعت له هذه الصفات لابد وان يكون له من الحساد والمبغضين عدد غير قليل.. فبحث عنهم وعرفهم.. !
***
وكانوا للأسف الشديد من كبار العلماء(الشيخ المهدى)و(الشيخ الدواخلى)..وكانا بالفعل يكرهان عمر مكرم..فأرسل اليهم محمد على أحد رجاله الخبثاء..و الذى استطاع بسهوله أن يستميلهما إليه ,, فذهبا بدون عمر مكرم لمقابله محمد على الذى بالغ فى التلطف بهما وحسن معاملتهما وضمهما إليه وقال لهما: (أنا لا أرد شفاعتكما ولا اقطع رجاءكما والواجب عليكما إذا رأيتم منى انحرافا أن تنصحوني وترشدوني..أما عمر مكرم فهو فى كل وقت يعاندنى و يبطل أحكامي ويخوفني بالجمهور)..فقال له(الشيخ المهدى): (هو ليس الا بنا واذا خلا عنا فلا يساوى شيئا..)وقد كان..ودبت الشحناء بين العلماء..وتركهم محمد على يغالبون بعضهم البعض وتحين الحين وتخيرالوقت- وكان عبقريا فى انتهاز اللحظة السانحة- فعزل عمر مكرم ومنح الشيخ المهدى مخصصاته ووظائفه... ونفاه الى دمياط..وخوفا من جماهيريته وشعبيته بين الناس جمع العلماء(وليس محمد على!!) توقيعات مشايخ الأزهر يطلبون فيها نفي عمر مكرم الى تركيا..
***
وبهذه الخطوة الشديدة الخطورة فى كل تاريخ مصر الحديث استطاع محمد على القضاء على المشاركة الشعبية قضاء تاما .فبعد ان تمكن محمد على من  ابعاد عمر مكرم استفرد بالعلماء واحدا تلو الأخر فنكل بالشيخ المهدى نفسه..والشيخ الشرقاوى والشيخ السادات الذى تولى نقابة الأشراف بعد عمر مكرم..والشيخ الدواخلي الذى جاء بعده..واعمل في الجميع يده الباطشة فصادر أموالهم وممتلكاتهم وتعمد إهانتهم علانية حتى يقلل من هيبتهم لدى الجمهور فلا تكون لهم كلمه مسموعة لديه..وبدأ محمد على فى لعبة التاريخ المتارجح بين ما هو ذاتى وشخصى وبين ما هو موضوعى وحقيقى ..لا ننكر على محمد على ما فعله من وضع نهايات قاطعة لماضى سيئا وأنه بالفعل صنع مصر الحديثة وصنع أمجادًا كبيرة وأخطأ أخطاء كبيرة ,, وترك وراءه الكثير من أسئلة الخوف والإخفاق.