السبت 20 أبريل 2024
توقيت مصر 12:04 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

تجديد أصول الفقه

لاشك أن حالة الجمود  الفكري و التراجع  الحضاري التي تمر بها الأمة الإسلامية ، والتي امتدت لقرون عديدة ، قد استوقفت كثيرا من الباحثين و المفكرين للبحث عن جذور أسبابها ، وكيفية التخلص و الانعتاق من أسرها . وقد تشعب الناس في ذلك إلى مذاهب شتى ، فبعضهم أرجع ذلك إلى فكرة(الاستبداد السياسي) ، فنادى بالحرية والديمقراطية ، وبعضهم أرجع ذلك إلى جمود(الشريعة) وعدم ملاءمتها للعصر ، فدعا إلى الحرية الفردية دون ضوابط ، وعلى رأسها حرية أو تحرير المرأة، والانفلات من القيود الدينية و الاجتماعية ، وفريق ثالث يرى أن العودة إلى الدين و(تطبيق شريعته) هو الحل الوحيد للخروج من حالة التخلف هذه . وكان القاسم المشترك لهذه الرؤى و الأطروحات المختلفة أنها كانت في أغلبها (شعارات عاطفية) دون (مشروع فكري) حقيقي ودون استراتيجية واضحة تستطيع جمع الفرقاء حول القضايا الكبرى ، فكان من نتيجة ذلك حدوث نوع من التصادم والشقاق و الاستقطاب الذي أدى إلى استنزاف طاقات الأمة في قضايا عبثية ،جعلت أعداء الأمة تعيش حالة من التشفي حتى  صدق فينا قول الشاعر : لا يبلغ الأعداء من جاهل    ما يبلغ الجاهل من نفسه 
ومع كل حركة إصلاح حقيقي ، تخرج أصوات مناهضة ومعارضة بحجج واهية و سخيفة ، وتقوم بطرح مسائل هامشية  وقضايا جزئية بعيدة عن جوهر قضية النهضة و التقدم ، وكأن المطلوب هو الاتفاق على كافة التفاصيل و الجزئيات ، وهذا أمر مستحيل ، ولا يمكن حدوثه، فالتفاصيل هي مكمن الخلاف ، والشيطان دائما يسكن في التفاصيل. المجددون الحقيقيون يدركون جيدا أن مشاريع النهضة لا تتحدث في تلك التفاصيل الصغيرة ، بل طبيعة النهضة أنها تصوغ مشاريع كبرى تتسم بقدر من المرونة والاتساع في الرؤى لتحقيق المقاصد الكلية ، لذلك فما زلنا جميعا نحمل (صخرة سيزيف) ونحن نتسلق جبل التخلف لنعاود الكرة مرة بعد مرة . و ليس معنى ذلك أن نستسلم ،أو أن نترك الساحة للرومانتكيين والعاطفيين و مثيري الضجيج من كل تلك الاتجاهات ، بل ينبغي أن نحاول أن نعيد قراءة التاريخ والتراث والواقع ، ربما نستطيع أن نضع أيدينا على بعض مواضع الخلل في ذلك المأزق الحضاري. وإعادة القراءة لا تعني إلغاء ما مضى بل تعني الاستضاءة به والاستفادة من منجزه ، وتجاوز ما لا يتناسب مع واقعنا الجديد. فالشريعة مرتبطة بالواقع ارتباطا وثيقا ، تؤثر فيه ويؤثر فيها ، ولا نبالغ إن قلنا إن الشريعة هي التعايش مع الواقع الإيجابي، و محاولة تغيير الواقع السلبي بطريقة ناعمة تفهم الفرق بين الثوابت والمتغيرات. ومن العلوم التي ينبغي أن يعاد قراءتها بطريقة متأنية ، وإعادة صياغتها بطريقة حداثية تلائم مناهج التفكير الحديثة لدى الأجيال الجديدة ، علم أصول الفقه ، الذي تم تدوينه و تطوره في ظل سياق ثقافي واجتماعي يختلف إلى حد كبير عن سياقنا الذي نحن فيه. فإذا كان أبو حامد الغزالي في كتابه "المستصفى من علم الأصول" لا يعبأ بعلوم الحساب و الهندسة والنجوم لأنها (علوم ظنية لا نفع فيها) على حد قوله ، فإننا ينبغي أن نتوقف أمام مقولته تلك ومقولات أخرى مشابهة ، لكي نرفضها ونبين خطأها ، لأن الأمة في حاجة إلى علوم الشريعة وعلوم الطبيعة أيضا بنفس القدر ، بل أصبحت حاجتها الآن إلى علوم الطبيعة أكثر أهمية من حاجتها إلى علوم الشريعة و اللغة. كما أن إعادة القراءة التي نعنيها ليس مقصودا بها التوقف أمام تلك العبارات ونقدها ، بل إننا نتطلع إلى ما هو أعم وأشمل من ذلك ، وهو إعادة تقييم (المنهج) الذي صيغ به هذا العلم. وإذا كان محمد ابن إدريس الشافعي رحمه الله هو أول من وضع علم أصول الفقه وفقا لآراء أكثر المحققين ، وذلك في كتابه الرسالة الذي كتبه عنه تلميذه الربيع بن سليمان ، وتبعه كثير من أئمة الشافعية كالغزالي و الآمدي وغيرهما  بمنهج مشابه لمنهج الشافعي مع شيء الفلسفة والمنطق ، وهو يشبه المناهج البنيوية الحديثة التي تعتمد على (النص ) فقط دون الالتفات إلى (الواقع) الذي أنشأه ، وتنطلق من (الكليات) إلى (الجزئيات) ، فإن الأحناف كان لهم طريقة أخرى تختلف عن منهج الشافعي رحمه الله وهو الانتقال من الجزئيات والمسائل الفقهية إلى وضع القواعد العامة والأحكام الكلية. والأحناف بهذه الطريقة ربما نعتبرهم أكثر مرونة في التعامل مع النصوص. غير أن هناك مدرسة أخرى هي المدرسة الأكثر تطورا من كلا المدرستين ، وهي مدرسة الإمام الشاطبي رحمه الله ، ونظريته الشهيرة في المقاصد. ويتميز الشاطبي بأنه أدرك الفرق بين نص الشريعة الحرفي وروح الشريعة الذي يأخذ في الاعتبار التطور البشري ،وتغير عوائد الناس وأعرافهم وثقافتهم . لقد كان الجمود أمام ألفاظ الشريعة دون مراعاة السياق الثقافي الذي أنتجها أحد الأسلحة التي استند إليها المتطرفون والإرهابيون في نشر أفكارهم المنفرة والمضادة لمرونة الشريعة ومقاصدها والتنوع الثقافي والاجتماعي للبشر في مختلف الأزمنة والأمكنة . وقد حاول كثير من العلماء الوقوف أمام موجة الإرهاب والتطرف هذه بابتكار مقولة (الفرق بين الحكم والفتوى) ، لكنها مع وجاهتها لا يبدو أنها مقولة تستطيع أن تقنع الذين يصرون على التطبيق الحرفي للنص ، ولذلك ينبغي إعادة كتابة علم أصول الفقه بطريقة أخرى تملأ الفجوة الواسعة ، وتقرب المسافة بين (الحكم والفتوى) ، وتعيد الاعتبار لروح الشريعة الغائب. وسنبدأ في مقالات أخرى إن شاء الله بقراءة تحليلية لرسالة الشافعي رحمه الله.