الجمعة 19 أبريل 2024
توقيت مصر 23:17 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

وصاحبه الذى( لم يحزن)

كانت تلك اللحظة هى لحظة الذروة في التاريخ البشرى كله..إنها تلك اللحظة التى قال فيها صاحب لصاحبه عبارة من أوقع عبارات الروح والرجاء والحب والرحمة.. ونزل بها الروح الأمين من رب العالمين لتكون قرآنا يٌقرأ ويٌتلى إلى يوم القيامة (ثاني إثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لاتحزن إن الله معنا)..ذلك أن طريق العودة الى الجنة كان قد اكتمل زمانه بهذه الرحلة(الهجرة الى المدينة)التى قيلت فيها هذه العبارة..فموعد عودة سيدنا محمد ببنى أدم من الأرض الى الجنة(موطنهم ومنشأهم الأول)قد أقترب.. 
محطة الأرض محطة بالغة الأهمية في الوجود..سيعيش عليها مخلوق الله المختار(الإنسان) الذى تمم الله بخلقه هذا الوجود..ليكون(الوصلة)التى يتصل فيها الروح بالطين..الأزلى والخالد بالفانى والبالى.. وهو ما أوجد (الحياة الدنيا)التى لا يجب أن ننساها ونحن نسرع الخطى إلى هناك ..إلى دار البقاء..(ولا تنسى نصيبك من الدنيا..) .
فلابد من دنيا لمن كان فى الدنيا..وقد كان صلى الله عليه وسلم يعيش الحياة بروح وفرح ويستقبلها مرحبا ذاكرا عند صبح النهار وممساه وعند ناشئة الليل وأخراه..يرحب بالزرع والمطروالشمس والقمر الذى يستقبله فى حفاوه قائلا فى خشوع وشوق: ربى وربك الله.. 

قبل أن يأتى إيمانويل كانط بأسئلته الشهيرة فى القرن الـ18 كان الرسول الكريم قد علمنا من القرن السادس كل شىء :ماذا يمكننى أن أعرف؟ ماذا يمكننى فعله ؟ماذا تعنى الحياة ؟ما هو الإنسان؟. 

*** 

وسيحكى لنا الكاتب الانجليزى الشهير توماس كارلايل الذى عاش 86 عاما ومات سنة 1881م فى كتابه الشهير (الأبطال)عن البطل نبيا ..هو كتب  كتابه على هذه الطريقة البطل كاتبا .. البطل موسيقيا.. البطل فارسا وهكذا ..واختار الرسول الكريم ليتحدث عن(البطل نبيا)الرجل ألف هذا الكتاب 1841م ويقولون أن هذا الكتاب خير كفارة عن ما كتبه بعض المؤرخين الأوربيين فى القرن الوسطى فتحدث عن معجزة الرسول فى جمع شعث أمة جاهلة مشركة موزعة الأهواء قهرت أقوى إمبراطوريات زمنها فى أقل من قرن .. 
أما الكسندر بوشكين الذى عاش 38 سنة ومات سنة 1837م (شمس الشعر الروسى) كما يسموه .. وهو مثل المتنبى وأحمد شوقى عندنا ..فحدث ما شئت عن هذا الوجدان النبيل الرقيق فى قصيدته(النبى) التي تعكس كم تأثر بوشكين بالقرآن وسيرة الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم..ومن أهم قصائدة قصيدة (محاكاة القرآن) ستجد الروعة والبهاء والصوفية الشفيفة فى حديثه عن سورة النور بالمعنى  المباشر وبالمعنى المجازي ليصف قدرة الله الخالق(هو الرحيم أنزل القرآن المقدس على محمد وبترتيله نقلنا الى النور/ وانقشعت الغشاوة عن العيون)..الله يرحمك يا عم بوشكين.. أين أنت من(السارح بن البارح)الذى يتطاول على (البخارى)وهو لا يقصد البخارى.. بل يقصد مارواه البخارى من هدى ونورعن النبى الكريم . 
سنقرأ لصاحب رائعة( آنا كارنينا)و(الحرب والسلام) تولستوى الذى عاش 72 عاما ومات سنة 1910م ..الذى ألف كتابا من أمتع وأعمق ما يطالعه العقل والقلب بعنوان(حكمة النبى) صلى الله عليه وسلم ..
 الله يرحمك يا عم تولستوى أين أنت من (فليكس هوفمان القرن الخامس والعشرين)الطبيب الشهير المهير الأغر الأشهب ..الذى يٌعلى من قيمة العقل والعلم الاستنارة .. جوة المغارة وخلف الستارة فيظهر لنا كل أسبوع فى قناة محمد دحلان ..متطاولا على عمر وعثمان وعلى وخالد رضى الله عنهم (معاك أنا يا عم إسلام حافظ وياعم رؤوف عبد العزيز أهو يا إرهابيين يا تكفيريين يا ظلاميين يا بتوع الجوارى اللى تحت السفرة وبير السلم).. وبالمناسبة تروى لنا السيرة أنه عندما أسلم خالد وكان قد تأخر في إسلامه قال له عليه الصلاة والسلام :عجبت لك يا خالد فأنا أرى لك فكرا..أى أن مثلك ما كان ليتأخر فى إدراك قيمة الإسلام.
(على فكرة فليكس هوفمان هو من اكتشف الأسبيرين والكودايين 1910م).                                    


**** 
وعلى ذكر المسلسلات الدينية والمادة الدينية بصفة عامة فى الإعلام (نذكر الهجوم على مسلسل خالد سيف الله لإسلام ورؤوف وتامر) .. فقد سمعت الفنان الكبير( أشرف عبد الغفور) على موجة البرنامج العام يوم الجمعة21 اغسطس فى برنامج عن الاحتفال بالهجرة يشتكى شكوى مريرة من أنه خلال الـ 15 سنة الأخيرة كانت هناك أوامر بالإقلال من البرامج والمسلسلات الدينية لأن ذلك يشجع التطرف ..وهو يرى ان العكس هو الصحيح ..الأستاذ أشرف قام بأدوار كثيرة فى المسلسلات الدينية أشهرها دور الوليد بن عبد الملك فى مسلسل(عمر بن عبد العزيز) وسلطان العلماء العز بن عبد السلام في مسلسل (أئمة الهدى)..                  شكوى وأنين من فنان قديرعلى نشر التفاهة وحجب القيمة  .                                                                                               
غياب القيمة والمعنى وانتشار التفاهة والبلاهة نبهنا لها الروائى الشهير(ميلان كونديرا) 93 عاما فى روايته الساخرة (حفلة التفاهة)التى كتبها فى 2014م  فيقول: التفاهة يا صديقي هي سيدة الموقف.. إنها معنا على الدوام وفي كل مكان ..إنها حاضرة حتى في المكان الذي لا يرغب أحد برؤيتها فيه..في الفظائع في المعارك الدامية في أسوأ المصائب.. التفاهة يجب أن نحبها .. بل وأن نتعلم حبها.. لا يا عم كونديرا علينا أن نقاوم ليل البلاهة ونحتفظ للحياة بمعناها . 


**** 

كان صلى الله عليه وسلم يفسح للناس فى آماد الرحمة والأمل ويذهب فى ذلك مذهبا بعيدا.. سنذكر حديث أبو هريرة  حين قال له الرسول الكريم: اذهب فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبة فبشره بالجنة..وللمفارقة ويا للحظ ..كان أول من قابله وراء الحائط (عمر)..الذى يضربه على صدره ويذهب  ابوهريرة الى الرسول باكيا .. فيقول له مالك يا أباهريرة .. فيحكى له ما كان من عمر ..الذى يبرر ذلك للرسول قائلا :خفت أن يتكل الناس ولا يعملون.. فعل عمر ذلك مع ما كان يحمله من إجلال وتقديرلأبى هريرة لكثرة ما روى عن الرسول .     
وعندى أن المعنى يبقى ويستمر بفيضه وجلاله ونوره..فرحمة الله وسعت كل شىء وهو سبحانه كتب على نفسه الرحمة..فالإنسان(ضعيف)كما ذكر القرأن..وجسده يطارده بالحاجات والشهوات ونفسه تلاحقه بالهواجس والوساوس..وكل ذلك خلال سنوات عمر قليلة معدودة..يحاول فيها بالعمل الصالح والإحسان ما أستطاع.. وصحيح ما قالته السيدة عائشة أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق(خير ما تلقون به ربكم ..أن تلقوه بغير ذنوب) والذنوب أساسا حاجة مقززة..النفس الطبيعية تنفر منها..وأصلا ربنا أغنانا عنها كما قال عمر(ما نهى الله عن شىء إلا وأغنى عنه)..وتروى لنا الأحاديث (ليغفرن الله مغفرة يوم القيامة حتى أنه ليتطلع لها ابليس)..فالتيسير التيسر ..فهذه أيام للأسف كثرت فيها المغريات بالشر وقلت فيها المعينات على الخير كما يقولون . 

**** 
كانت الصداقة بين الرسول الكريم وسيدنا أبو بكر قبل الاسلام من الصداقات التى تستحق أن يٌحكى عنها وتٌدرس فى أدب الصداقة والصديق ..وقد كانا لا يكادا يفترقا..وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يأتى دارأبا بكر فى أول النهار مرة وأخره مرة ..إلا يوم الهجره أتى مرة واحدة فى الظهيرة.. كانا كما تروى السيرة أعظم صاحبَين في تاريخ الأمة..رحم الله ابو بكر الصاحب الصديق الصٍديٍق الذى قال عنه الرسول مجملا فى وصفه : ما ساءني أبو بكر قط . 

**** 

سنجد فى القرآن إشارة الى وصف(الصديق الحميم) كون ذلك أصلا من مباهج الحياة الجميلة..وقد كانت هناك صداقات مشهورة فى مكة كتلك التى كانت بين العباس عم الرسول وابى سفيان وقد وفاها العباس حقها يوم الفتح وأكرم الرسول عمه فى شخص صديقه حين جعل دخول داره علامة من علامات الأمان .. وكذلك تلك الصداقة النادرة بين سيدناعبد الرحمن بن عوف وأمية بن خلف الذى كان يتفنن فى تعذيب سيدنا بلال حتى أعتقه الصديق وتلك الصداقة التى كانت بين سالم العبد الفارسى ومولاه أبو حذيفه بن عتبه الذى تبناه وزوجه إبنة أخيه . 

**** 

كان صلى الله عليه وسلم عظيم وعلى خلق عظيم .. لين الخلق ..جميل المعاشرة.. رقيق القلب.. طليق الوجه شديد فى غير عنف ..متواضع فى غير مذلة ..جواد من غير إسراف ..لا يبث أحدا شكوى.. يصافح الغنى والفقير ..ويسلم مبتدأ على كل من إستقبله صغير وكبير.. وتزيد السيدة عائشة:  فمن طلب التواضع فليقتد به ومن لم يرض لنفسه بذلك فما أشد جهله ..فلقد كان أعظم خلق الله منصبا فى الدين والدنيا ..فلا رفعة ولا عز إلا فى الإقتداء به.. صلى الله عليه وسلم .  
فى ذكرى الهجرة وقت مناسب لإحياء مشاعرنا الإنسانية.