الجمعة 29 مارس 2024
توقيت مصر 15:35 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

الكورونا ومستقبل النظام الاقتصادي العالمي

محمود يوسف بكير
يهدف المقال إلى مناقشة بعض التداعيات الاقتصادية الهامة لفيروس كورونا ومستقبل العولمة وبيان بعض ملامح العلاقات الدولية الجديدة التي بدأت في الظهور بالفعل وتأثير هذه التطورات علينا في العالم العربي.
وفي هذا فقد أدت محاولات وقف انتشار فيروس كورونا الجديد والمرض الناتج عنه واسمه COVID 19 إلى أزمة اقتصادية عالمية أكبر وأخطر بكثير من الأزمة المالية التي اجتاحت العالم في عامي 2007/2008، حيث اضطرت معظم دول العالم إلى فرض قيود على حركة مواطنيها ووقف العديد من الأنشطة والفعاليات الاقتصادية والترفيهية والثقافية والفنية والرياضية والدينية، وغلق المدارس والجامعات ....الخ مما أدى وسيؤدي إلى المزيد من الخسائر الكبيرة في كل القطاعات المذكورة وغيرها. ونتج عن هذا هبوط حاد في كل الأسواق المالية وأصبح العالم على شفا نوبة كساد كبير وليس مجرد انخفاض في معدلات النمو كما يتوقع بعض الاقتصاديين. وهذا يعني ببساطة شديدة ومؤلمة أن يفقد الملايين وظائفهم ويفقد أصحاب الاعمال الصغيرة مورد رزقهم وهؤلاء عادة في عالمنا العربي لا يوجد من يتذكرهم أو يدعمهم في وقت الأزمات. 
وبالإضافة إلى الخسائر السابقة فإن اضطرار مئات الملايين من البشر في جميع أنحاء العالم إلى الجلوس في بيوتهم لأسابيع وربما لأشهر قادمة، فمن المتوقع أن يكون لهذا الحبس والتباعد الاجتماعي المفروض على الناس آثار نفسية وصحية سلبية. فلم يعد بمقدورنا أن نتصافح أو نعانق أحبتنا وأصدقائنا أو حتى نجلس إلى جوارهم أو نلمسهم. أليس هذا هو انتقام الطبيعية من أسوأ مخلوقاتها وهو الانسان كما ذكرنا في العديد من مقالاتنا السابقة؟ وذلك لكل ما يسببه هذا الانسان الأناني من دمار وخراب وتلوث لهذا الكوكب الجميل بكل غاباته وبحاره وانهاره وطيوره وحيواناته وموارده الطبيعية.
وعودة إلى الجانب الاقتصادي لمشكلة فيروس كورونا الذي اقتحم عالمنا بدون سابق إنذار حيث تحاول حكومات العالم وخاصة الدول الغربية إنقاذ مواطنيها واقتصاداتها وأسواقها من الهجوم الكاسح للفيروس الذي لا يري بالعين المجردة من خلال مجموعة من سياسات التحفيز المالي والمسماة اختصارا بال QE  وتخفيض أسعار الفائدة إلى ما يقارب الصفر وتخفيض بعض الرسوم السيادية الأخرى بغرض توفير سيولة جديدة لقطاع الأعمال والقطاع العائلي على أمل أن تؤدي هذه السيولة إلى زيادة الإنفاق الاستثماري والاستهلاكي  لدفع الاقتصاد إلى النمو وتفادي الكساد المتوقع.  
ولكننا نتساءل كيف سيقوم الناس بزيادة إنفاقهم الاستهلاكي وهم ممنوعون من الخروج من بيوتهم وكل المحلات ووسائل الترفيه مغلقة؟ وكيف سيزيد قطاع الأعمال إنفاقه الاستثماري وهو يري المستهلكين قيد الإقامة الجبرية ووسط هذا المناخ من عدم اليقين؟ وكما يعلم طالب الاقتصاد في سنته الأولى بالجامعة بإنه في ظل ظروف عدم اليقين فإن كل القطاعات الاقتصادية يرتفع لديها الميل الحدي للادخار أو إلى الاستثمار في الملاذات الآمنة مثل الذهب والسندات السيادية.
نحن نعتقد أن سياسات التحفيز المالي تصلح للتعامل مع الانكماش والكساد الناجم عن مشاكل اقتصادية أو مالية كما حدث في الأزمة المالية العالمية لعام 2007 ولكن أزمة الفيروس هي أزمة صحية بالأساس ومن ثم فإن القطاع العائلي وقطاع الأعمال لن يعودا الي العمل بالشكل المعتاد إلا بعد القضاء على هذا الفيروس أو إيجاد علاج للوباء الناتج عنه، أي حل لب المشكلة وليس أعراضها. كما أنه لا ينبغي أن ننسى أننا كبشر نصاب بالاكتئاب عند تقيد حركتنا وحريتنا وعنما نحيى فقط من أجل الحياة وبدون معنى أو غرض ومن ثم فمن أين تأتي الرغبة في الإنفاق!
ومما سبق يمكن استنتاج أن السيولة الجديدة التي توفرها الحكومات في شكل تسهيلات بشروط ميسرة للتعامل مع الكورونا لن تنجح إلا في تفاقم مشكلة الديون الحكومية وديون كل من قطاعي الأعمال والقطاع العائلي على المستوى العالمي ومن المرجح أن تؤدي هذه السيولة الزائدة أيضا إلى زيادة نسبة التضخم بمعدلات كبيرة عندما تعود الأمور إلى طبيعتها بعد حل مشكلة الفيروس وعندها سوف تزداد فجوة الدخل والثروة بين الأغنياء والفقراء عمقا واتساعا.       
وبالرغم من كل ما نراه من تسرع وفوضى وأخطاء وأوضاع كئيبة على مستوى العالم وخسائر بالبلايين وغلق بلدان بالكامل، كل ذلك من أجل إنقاذ بضعة ألاف على حساب مئات الملايين الذين تحولت حياتهم فجأة الى جحيم، بالرغم من كل ذلك إلا أننا متفائلون بإن علماء الغرب سيجدون علاجا لمرض ال COVID 19 خلال أشهر وسوف يجدون المصل الذي سيقضى على الفيروس نفسه خلال عام أو أكثر قليلا بحسب تقديرات الخبراء، وهذا هو الطرق الصحيح للتعامل مع المشكلة أي توفير كل الموارد المطلوبة لمواجهة الفيروس وتوفير المطهرات والأقنعة وأجهزة التنفس التي يحتاجها المصابون للبقاء على قيد الحياة وبناء مراكز طوارئ جديدة كما فعلت الصين. 
إن محنة هذا الوباء والإحراجات المخجلة التي سببها للدول الغربية الكبرى سوف تؤدي كما نعتقد إلى تغيرات كبيرة في النظام الاقتصادي العالمي والعلاقات الدولية  والعولمة المظلومة دائما في وقت الأزمات  سوف تكون من أكثر المتضررين والسبب في هذا أن فكرة العولمة في شكلها الأول الذي تحدث عنه آدم سميث في كتابه ثروة الأمم كانت تقوم على أساس أن ثروة الأمم تتحقق بشكل جيد وسريع عندما يتم تقسيم العمل وتخصص كل أمة في إنتاج شيء محدد تتمتع فيه بميزة أو أفضلية نسبية مقارنة بباقي الأمم على أن يتم التعامل والتبادل التجاري بين الأمم على هذا الأساس. عندها تحقق العولمة والتخصص رخاءا للجميع وتتعاظم الثروة. وينبغي هنا أن نتذكر أن العولمة على مدار الخمسين عاما الماضية أخرجت مئات الملايين عبر العالم من مصيدة الفقر من خلال ما تدعو إليه من التخصص وحرية التنقل وحرية التجارة وحرية تنقل رؤوس الأموال.
ولكن مشكلة الكورونا أظهرت جانبا في غاية الخطورة للعولمة وهو التداخل العميق والمتزايد بين الدول واعتمادها على بعضها البعض في توفير الكثير من المنتجات والخدمات الاستراتيجية. وعلى سبيل المثال فإن طائرة الإيرباص الأوروبية تدخل في صناعتها آلاف القطع التي تأتي من العديد من الدول من خلال ما يعرف بسلاسل الإمدادات التي أصبحت معقدة للغاية. ولك أن تتخيل عزيزي القارئ ما يمكن أن يحدث عندما تنشب أزمة كبيرة في أحد هذه الدول تعوقها عن توريد ما يطلب منها في الوقت المحدد. بالطبع سيتعطل الانتهاء من إخراج المنتج النهائي ربما بسبب جزء صغير للغاية، وعادة ما يكون من الصعب تدبير هذا المنتج من مكان آخر بالسرعة المطلوبة. 
والأسوأ من المثال السابق هو ما يحدث الآن في العديد من الدول الصناعية التي باتت تفضل التخصص في الخدمات والمنتجات ذات التقنيات العالية مفضلة أن تترك المنتجات الصناعية التقليدية للصين والدول الأخرى ذات العمالة الرخيصة. كما أدت العولمة إلى تطور آخر في العمليات التصنيعية لم يكن موجودا من قبل وهو عدم حاجة الشركات المصنعة إلى الاحتفاظ بأي مخزونات كبيرة من الخامات ولوازم التصنيع الأخرى وذلك لوجود سلاسل أمدادات سريعة جدا تسمى ب Just in time أي في الوقت تماما. وهي تلبي احتياجات المصنعين في الوقت المحدد وبذلك لا يحتاجون إلى امتلاك أو تأجير مستودعات ضخمة بشكل دائم وهو ما ينعكس على أرباحهم بشكل جيد.
وبالطبع فإن نظرية آدم سميث صحيحة في أن العولمة والتخصص والتعاون الدولي هي الطريق الأمثل لتحقيق الثروة للجميع ولكن فيروس كورونا أثبت أن هناك مخاطر كبيرة قد تتعرض لها الدول المتخصصة في وقت الأزمات الكبيرة مثل أزمة هذا الفيروس. وعلى سبيل المثال فإن إيطاليا التي تسجل الآن أعلى إصابات بالفيروس في أوروبا لم تكن تمتلك بشكل كاف أجهزة التنفس التي يحتاجها المصابين للبقاء على قيد الحياة ولا غيارات التعقيم التي يحتاجها الاطباء والممرضات ولا حتى الأقنعة العادية التي يحتاجها الناس للوقاية من المرض. وعندما استغاثت بدول المجموعة الأوربية وجدت أن هذه الدول تعاني من نفس المشكلة ما عدا ألمانيا التي منعت تصدير هذه الإمدادات إلى إيطاليا أو إلى أي مكان خارج أراضيها. وحدث نفس الشيء مع إسبانيا ودول أخرى منها أمريكا نفسها. والسبب في هذا أن العالم ترك هذه المهمة للصين التي تنتج حاليا أكثر من نصف احتياجات العالم من هذه المستلزمات الطبية وكذلك الأدوية الامريكية التي تفضل شركات الأدوية العملاقة في أمريكا تصنيعها في الصين حتى قبل هذه الأزمة لرخص العمالة هناك. ومن قام بإغاثة هذه الدول الأوروبية وكذلك الدول الإفريقية في هذه الأزمة هو الصين. التي نجحت في احتواء الفيروس بشكل فريد وبعدها مدت يدها لمساعدة الدول الأخرى. والصين الطامحة للاستيلاء على دور أمريكا في زعامة العالم لم تفعل هذا بالطبع لوجه الله ولكن لمد نفوذها بشكل ناعم في جميع أنحاء العالم. وسياسة ترامب الانعزالية تساعدها الان في هذه المهمة إلى حد ما. ولكن دعوات كثيرة بدأت تظهر مؤخرا في أمريكا لإعادة توطين الصناعات الأمريكية في الخارج خاصة تلك الواقعة في الصين إلى أمريكا مرة أخرى. ولو أن ترامب فاز بولاية أخرى فإنه سيفعل هذا.
وتوقعاتنا في هذا الشأن أن ما حدث مع كل من إيطاليا وإسبانيا من زميلاتها في الاتحاد الأوروبي بخصوص أزمة الفيروس والذي أظهر الجانب الأناني السيء في طبيعتنا البشرية ربما يدفعهما إلى إعادة النظر في علاقاتهما بالاتحاد أسوة ببريطانيا خاصة وإن ما فعلته ألمانيا مع إيطاليا بالذات مخالف لقوانين الاتحاد الأوروبي التي تنص على حرية التجارة بين الأعضاء دون أي قيود.
ومرة أخرى فإن الفيروس اللعين سوف تكون له تبعات كثيرة عل النظام العالمي ومن المرجح أن يكون السبب في إعادة رسم الجغرافيا السياسية للعولمة حيث نعتقد أن معظم الدول والتكتلات الاقتصادية سوف تقوم بعملية مراجعة شاملة لسياساتها وعلاقاتها الدولية للتقليل من مخاطر العولمة من خلال اللجوء لسياسات الاعتماد على الذات والحد من الاعتماد على الدول الأخرى بقدر المستطاع وبالتأكيد فإن الصين سوف تتضرر من هذه المراجعات خاصة في تعاملاتها مع أمريكا وأوروبا بعد أن كانت المصنع الأكبر للعالم.  
وكما ذكرنا في العديد من مقالاتنا السابقة بأنه كما لا يصح أن يعتمد النظام المالي العالمي على قطب واحد هو أمريكا سواء في عملة الاحتياطي الدولي أو نظام التحويلات المالية أو عمليات المقاصة بين البنوك لما أدى إليه هذا من ابتزاز الولايات المتحدة لكل الدول المخالفة لتوجهاتها خاصة في ظل إدارة ترامب، فإنه لا يصح أيضا أن يعتمد العالم على مورد واحد للكثير من السلع والإمدادات الاستراتيجية وهي الصين. 
أما بالنسبة لانعكاسات أزمة الكورونا على عالمنا العربي فإننا نتوقع أن ينخفض معدل النمو الاقتصادي بشدة في هذه الدول للأسف الشديد حيث تعتمد أغلبها على السياحة وعلى البترول وتحويلات المقيمين في الخارج وبعض خدمات النقل والتجارة العابرة بالإضافة الى الاستثمارات الأجنبية. وقد أضر الفيروس بكل مصادر الدخل هذه بشكل بالغ وكان الله في عون مواطنيها. لقد آن الأوان أن تراجع دولنا برامجها الاقتصادية وأن تسعى بجدية للإقلال من اعتمادها على الاقتراض من الداخل والخارج للإنفاق على المشاريع المظهرية وأن تعيد ترتيب أولوياتها وأن تستعد للعولمة الجديدة التي قد تحرمها من الكثير من الاستثمارات الأجنبية التي هي بحاجة دائمة لها لتحقيق معدلات نمو معقولة وخلق وظائف جديدة للتعامل مع مشكلة البطالة المزمنة. نقول هذا لأننا نتوقع أن تقلل الدول المصدرة للاستثمارات الأجنبية من عمليات الاستثمار في الخارج لحاجتها لإعادة بناء هيكلها الانتاجي للإقلال من الاعتماد على الدول الأخرى كما أوضحنا في ثنايا المقال. وبناءا عليه فإن أي استثمارات جديدة قد تصل الدول العربية سوف تكون على الأرجح قصيرة الأمد، وهذا النوع من الاستثمارات يهدف إلى الربح السريع وليس للتنمية الاقتصادية والبشرية التي ننشدها. 

* مستشار اقتصادي